سياسة

‘الكاتب العظيم’ مرض ينخر الثقافة العربية ويهمش المبدعين

آفة الثقافة العربيّة بصفة عامة هي التكريس الذي يصل إلى التقديس الكهنوتي، وصناعة الفحل الذي يستشعر بقيمته على حساب الآخرين، ومَن صنعوه أيضًا. على مدار تاريخ الثقافة العربية كرَّست للفحولة وجعلت مِن الأديب الواحد هو بيضة الديك، وما عداه لا قيمة له.

في كتابه “ضحايا يوسف إدريس العظيم وعصره” يَسعى الشاعر والناقد شعبان يوسف إلى خلخلة الأنساق المُهيمنة وزحزحة المفاهيم التي أخذتْ معنى يُوحي بالجمود والثبات دون أنْ تعي الحركيّة التي هي سمة الحياة أيضًا، ودون أن يُقلِّل من قيمة أحد كما يتبادر إلى فَهم القارئ المتعجل، بأن الكتاب جاء ليقوِّض مملكة يوسف إدريس الإبداعية وَيُنْزله من على إمارة القصة. وهو ما لم يكن هدفًا للكتاب، فالمؤلف في الكثير من المواضع يؤكِّد على قيمة الكاتب الكبير، بل يصفه بالعظيم في عنوانه، لكن مع اعترافه بقيمة إبداع يوسف إدريس التي لا ينكرها أحد، إلا أنه أيضًا لا يقبل بالتضخيم.

تفكيك الأسطورة

يتحدث المؤلف في مقدمة كتابه الصّادر حديثًا عن دار نشر بتانة بالقاهرة 2017، عن ظاهرتي الاستقطاب والاستبعاد في الثقافة المصرية وانتشارها في الثقافة العربية بصفة عامة، ويضرب الأمثلة الحيّة على نماذج اقتربت وأخرى كان مصيرها الاستبعاد والإقصاء. ويُحلِّل العوامل التي سَاعدت على شيوع مثل هذه الظاهرة، وإن كان يُرْجِعُ إلى جانب السُّلْطة عوامل جديدة ساهمت إلى حدٍّ بعيد في استفحال الظاهرة، والتكريس للكاتب الأوحد، منها النقد والعلاقات ودور النشر وغيرها.

الكتاب في فصوله الخمسة الأولى بمثابة تفكيك لأسطورة الكاتب الأوحد وبمعنى أدق يضع يوسف إدريس في إطاره الحقيقي في مواجهة كُتّاب عصره، مظهرًا للأدوات التي صعد بها بريق الكاتب. وفي سبيل ذلك يكشف عن حقائق مُفزعة عن شخصية الأديب نفسه، سواء في نرجسيته التي وصلت إلى عدم الاعتراف بأحد، أو بالسخرية من قامات كبيرة مثل طه حسين الذي قدّم له المجموعة القصصية مدفوعًا من السلطة، فكتب على غير هواه، فادّعى إدريس أن طه حسين هو الذي طلب منه أن يكتب له المقدمة، بل يصف المُقدِّمَة بسخرية مريرة لا تتناسب مع قامة طه حسين نفسه بأنها “بركة”، لذا يُبْقيها في مقدمة الكتاب.

يأخذ الكتاب في أحد مساراته توجُّه نقد النقد، حيث يُفنِّد الكثير من المرويات التي راجت وأخذت موضع الحقيقة، ويُقدِّم الأسانيد على أباطيلها، فيفنِّد الأكاذيب الرائجة بأنّ القصة المصرية قبل الخمسينات من القرن الماضي كانت مخمليّة غارقة في وصف القصور والباشوات وملّاك الأراضى الكِبَار، فهو يرى العكس تمامًا بأن الكتابات الواقعيّة كانت حاضرةً في هذه الفترة ويضرب المثل بترجمات محمد السباعي ومحمد القصاص للأدب الروسي.

الكاتب لا يلقي باللائمة على يوسف إدريس وإنما على السلطة التي وجدت فيه نموذجا مثاليا للدفاع عنها والترويج لها

كما يشير إلى أن الكتابات القصصيّة المؤلفة لمحمود طاهر لاشين وأحمد خيري سعيد ومحمد أمين حسونة وشحاتة عبيد ويحيى حقي، ثمّ محمود البدوي وسعد مكاوي وأمين ريان ومحمود كامل المحامي وعبدالرحمن الخميسي وغيرهم، يتسلّل منها خيطٌ واقعيٌّ بين ثنايا القصص، هذا الخيط ربما لم يصبح ظاهرة، ولم يتحوّل إلى شعار إلا في خمسينات القرن الماضى. وبالمثل يُصحِّح ما ورد في ببليوغرافيا حمدي السّكوت، الذي نَسَبَ خطأً قصة “الوباء” لصاحبها يوسف الشاروني إلى يوسف إدريس، وكذلك يصحّح ما أدرجه سيد حامد النّساج في الببليوغرافيا التي أعدَّها عن قصص محمد يُسري فأدرج له 18 قصة في حين أن القصص حسب شعبان يوسف تزيد عن ضعف هذا العدد.

لا يُلقي الكاتب باللائمة على يوسف إدريس وإنما على السُّلْطة التي وجدتْ فيه نموذجًا مثاليًّا للدفاع عنها والترويج لها، وهو ما فعله بامتياز في قصة “السّاعات الخمس”.

الانتصار للمجاهيل

الكتاب يتكوّن من ستة عشر فصلاً، يخصص الفصول الخمسة الأولى لتفكيك أسطورة يوسف إدريس ثمّ يعقب هذه الفصول الحديث عن ضحاياه من أدباء طوتهم ذاكرة النسيان مثل محمد سالم وأبوالمعاطي أبوالنجا ومحمد عبدالمعطي المسيري وغيرهم، وكذلك يتناول العديد من الظواهر الأدبيّة على نحو الحلقة المفقودة ونجيب محفوظ والجوائز والأدب ومبالغات اليسار المفرطة، وعصر القصة الذهبي.

الكتاب ينفض الغبار عن الكثير من الأكاذيب

وكأنّ الكِتاب إلى جانب بحثه عن الظواهر الخفيّة في الأدب أيضًا انتصارٌ للكُتّاب المجاهيل الذين دهستهم أسطورة الكاتب العملاق، فيعيد إليهم الضوء ويضعهم في مكانتهم اللائقة أدبيًّا، وهو حقٌّ حريٌّ بتوجيه الشكر للمؤلف على استعادة المهمشين ونفض تراب النسيان عنهم وعن أعمالهم. فيقدِّم لنا مصطفى محمود وبداياته القصصية ويشير إلى تنوع كتاباته وله محاولات شعرية لم يجمعها، بل يصفه بأنه غزير الإنتاج ينشر في كل الأماكن لكن الفارق أنه لم تكن له سُلْطة تناصره مثل إدريس، وإن كانت له اتجاهاته في الكتابة حيث كان يجمع بين الأدبي والفلسفي والسياسي والصوفي وهو ما وجد مكانته في دولة الرئيس المؤمن وبالفعل ظهر نجمه في برنامج العلم والإيمان الذي يتواءم مع السُّلْطة الجديدة.

كما يلفت الانتباه إلى القاص محمد يسري أحمد وهو من جماعة كلية طب قصر العيني الأدبيّة الثائرة، ويصفه بأنه كان ألمعهم ككاتب قصة، بل قاد زملاءه جميعًا إلى الكتابة الجديدة في القصة، وهذا باعتراف إدريس وصلاح حافظ، أبرز ما في الكتاب هو تمريرات الكاتب الذكية عن اليسار المصري، ودوره المهمّ في الأدب، ثمّ الهجوم وتشويه مَن يخرج عن عصمته. ويشير إلى نُقاد اليسار ودورهم الخطير، الذي حدا بهم إلى أنْ بالغوا في مدح ظاهرة جديدة، وكان في مقابل هذا المديح نسف أو محو ظواهر أدبية تستحق الدرس النقدي العميق.

الكتاب في حقيقة الأمر ينفض الغبار عن الكثير مِن الأكاذيب التي راجت، وصارت أشبه بالمسلَّمات في الحياة الثقافيّة. ومن ثمّ ما ورد فيه من معلومات وحقائق لن يمرَّ مرورًا سهلاً لصناع الكهنة ومقدسي الكهنوت، بل سيكون أشبه بالحجر الذي ألقاه شعبان يوسف في بحيرة الدراسات النقدية الآسنة، وفي ذات الوقت هو إدانة للدراسات الأكاديمية التي من مهمتها الأولى البحث والتنقيب، على غضِّها الطرف عن الكثير من الحقائق المفزعة التي جاءت في الكتاب. وهو أشبه بقراءة ثقافية للوسط الثقافي في حقبة مهمة من تاريخ الإبداع.

إغلاق