سياسة
ثالثية ماكرون وما بعد السياسة
شكّل فوز إمانويل ماكرون في الانتخابات الرئاسية مفاجأة مذهلة، قسمت المجتمع الفرنسي إلى نصفين، نصف تفاءل بوصول وجه جديد يقطع مع المشهد السياسي القديم الذي لم يقدم زعماؤه للفرنسيين غير الوعود، وتمنى أن يحصل حزبه “الجمهورية إلى الأمام” على الأغلبية المطلقة في البرلمان حتى ينفّذ برنامجه الانتخابي. ونصف استاء من صعوده إلى سدة الحكم بدعوى عقيدته النيوليبرالية التي سوف تخدم الأعراف والبنوك ورؤوس الأموال أكثر ممّا تخدم الشعب، فقاطع الانتخابات التشريعية بقوة، حيث بلغت نسبة الامتناع عن التصويت أرقاما غير مسبوقة منذ ستينات القرن الماضي (51.29 بالمئة في الدور الأول، و57.21 بالمئة في الدور الثاني).
هذا الامتناع عن التصويت مثّل بدوره محور جدل لم ينته بعد، بين مبرّر كالفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك الذي عدّه إرثا لحال الكآبة العامة التي سبقت مرحلة ماكرون، فالناخبون الفرنسيون في رأيه يحتفظون في دواخلهم بارتكاس تصرفاتهم السابقة إذ ينتابهم نوع من الالتباس لكونهم مرغمين على التفاؤل عبثا يوما وراء يوم فيعيشون في ما يسمّيه بالتشاؤم المترف والإحساس المرّ بعدم القدرة على تصديق الحياة السياسية حتى صارت السياسة في تصورهم مجالا يُعطل فيه الجميعُ الجميعَ ويغدو الفساد خبز الفرنسيين اليومي.
وبين من يعتبره نهاية التمثيلية النيابية مثل الفرنسي عبدالنور بيدار، لأن السلطة التشريعية الجديدة لا تمثل سوى سدس الكتلة الانتخابية، أي ثلاثة فرنسيين من عشرين، فالأغلبية المطلقة التي حصل عليها حزب “الجمهورية إلى الأمام” تطرح في نظره مسألتين، ضعف السلطات المضادة كركيزة للجدل الديمقراطي من جهة، والطلاق الكامل بين تلك الأغلبية في البرلمان ومن يفترض أنه منحها إياها، أي الاستفتاء الشعبي من جهة ثانية.
هذا فضلا عن كون 70 بالمئة من نواب الحزب الفائز ينتمون إلى الطبقات العليا، وهو ما جعل الأصوات الغاضبة تذهب للمتطرفين من الجهتين، اليمين واليسار، أو توثر الامتناع. وفي رأيه أن الديمقراطية تكون في صحة جيدة إذا تصرف النواب انطلاقا من رصيد معين من الأصوات ليعبّروا عن إرادة منتشرة انتشارا واسعا عبر أنحاء البلاد.
وبصرف النظر عن أن ماكرون -الذي حصل في الدور الثاني على نسبة 66.06 بالمئة- لم يفز في الواقع إلا بنسبة 43.63 بالمئة، وأن نصفهم صوت ضدّ مارين لوبان أكثر مما صوت له، فإن المحللين ركزوا على ما يعتبرونه جديدا في برنامجه بما يحويه من حرص على تجاوز ثنائية اليمين واليسار، ليقدم حلاّ للتجاذبات الأزلية التي تعطل المجتمع الفرنسي، من خلال ثورة ديمقراطية كفيلة بتحرير طاقات القوى التقدمية التي طالما شكمت اندفاعَها الأحزابُ التقليدية.
فقد وصف عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين التصويت لماكرون وبرنامجه بكونه “خيارَ المستقبل ضد خيار الماضي”، وقال إن ماكرون لم يسع لإضافة حركة أخرى ناحية اليمين أو اليسار، لأنه أدرك أن التوجه الصحيح ليس في الاصطفاف مع اليمين ضد اليسار أو العكس، بل في اختيار المستقبل ضد الماضي، لأن المهم هو ملء الفراغ الناجم عن تفكك اليمين واليسار المناصرين لدوام الاتحاد الأوروبي. وهو ما مكّنه، رغم قصر عهده بالسياسة، من فرض خياره الأساس المتمثل في سياسة اقتصادية منفتحة على كل محاولات الانغلاق السياسي، ما جعل الولايات المتحدة المهمشة بانعزالية دونالد ترامب، وبريطانيا المنغلقة بسبب البريكسيت، تترديان إلى منطقة الظل التي خلقتاها بنفسيهما، بينما “يأتي النور الذي قد يضيء سبل كل البلدان نحو النهضة الاقتصادية المشفوعة بالصراع ضد التفاوت الاجتماعي من بلد الأزمات والإخفاقات، أي فرنسا”.
أما شنتال موف، أستاذة النظرية السياسية بجامعة وستمنستر، فقد رأت أن من المفارقة أن نداوي الأزمة العميقة للتمثيلية النيابية التي تعاني منها الديمقراطيات الغربية بالتي كانت هي الداء. فالأزمة نجمت عن تبنّي معظم البلدان في أوروبا استراتيجيا الخيار الثالث الذي نظّر له في بريطانيا عالم الاجتماع أنتوني غيدنز ووضعه قيد التطبيق حزب العمال الجديد بقيادة توني بلير. وهي استراتيجيا اعتبرت هي أيضا ثنائيةَ اليمين واليسار منتهية الصلاحية، ودعت إلى شكل جديد من الحوكمة أطلق عليها مصطلح “الوسطية الراديكالية”، وصرح معتنقها توني بلير بـ”أننا ننتمي جميعا إلى الطبقة الوسطى”، وبألاّ وجود بعدئذ لسياسة اقتصادية يمينية أو يسارية، وإنما “سياسة جيدة” أو “سياسة رديئة”.
هذا الأفق الذي اصطُلح عليه بـ”ما بعد السياسة” يستند بدوره إلى شعار مارغريت ثاتشر “لا بديل” أو “TINA” اختزالا، باستعمال الأحرف الأولى لمقولتها There Is Not” Alternative”، والمقصود ألا بديل للعولمة النيوليبرالية.
وقد لقي الخيار الثالث الذي اعتمده توني بلير حينئذ صدى في ألمانيا، حيث تبناه المستشار غرهارد شرودر في حزبه “الوسط الجديد”، قبل أن يتبناه معظم الاشتراكيين والاشتراكيين الديمقراطيين في أوروبا، ويعلنوا انتماءهم إلى وسط اليسار.
وبزوال الحدود بين اليمين واليسار فقدَ المواطنون إمكانية الخيار بين البرامج المختلفة عند الانتخاب. وكان لغياب البديل أثرٌ في ظهور المشاكل التي تواجهها البلدان الغربية حاليا، كالشك في صدقية المؤسسات الديمقراطية وتصاعد الامتناع عن التصويت والنجاح المطّرد للأحزاب الشعبوية اليمينية. ولئن استطاعت تلك الأحزاب، التي تزعم أنها ستعيد إلى الشعب سلطة انتزعتها منه النخب، أن تتجذر في عدة بلدان، فإن الاشتراكية الديمقراطية، بانزياحها نحو وسط اليسار، أصيبت في مقتل ووقعت في أزمة تكاد تشمل كافة أوروبا.
وفي رأي شنتال موف أن إلغاء الحدود بين اليمين واليسار غير واقعي، لأننا نعلم، منذ ماكيافيلي، أن المجتمع يطفح بمصالح ومواقف متناقضة لا يمكن التوفيق بينها، ولا يكفي أن ننكرها كي تزول. ثم إن غاية الديمقراطية التعددية ليست بلوغ توافق بقدر ما هي تمكين التوافق من التعبير عن نفسه من خلال مؤسسات تفتح له باب صراع سليم، لا ينظر فيه المتصارعون إلى بعضهم بعضا كأعداء بل كمتنافسين، فهم يعرفون أن ثمة مسائل لا يمكن الاتفاق حولها ولكنهم يحترمون حق بعضهم بعضا في الصراع لأجل فوز فريقهم، وتتولّى المؤسسات الديمقراطية عندئذ توفير إطار “يقاوم فيه المتصارعون بعضهم بعضا دون أن يَفتِك طرفٌ بطرف” بعبارة الأنتروبولوجي مارسيل موس