سياسة
الجوائز لعبة خطرة والحرب ضد نهضة الأدب
يعد القاص العراقي أحمد خلف واحدا من رواد التجريب والتجديد في القصة العراقية منذ نهاية الخمسينات ومطلع الستينات في القرن الماضي، وواحدا من القصاصين العرب الذين نشرت لهم أغلب الصحف العربية قبل العراقية نتاجه القصصي وصار واحدا من كتاب القصة الذين لا تغفل عنهم الدراسات النقدية العراقية.
الستينيون والحرب
ردا على سؤال ما الذي جاء به إلى القصة أولاً، ومن ثم السرد عموما؟ يؤكد خلف أن ميله إلى السرد والقصة كان منذ البدء في الكتابة ويقرّ بأنه متأتٍ من الحاجة إلى خلق شيءٍ مبتكرٍ يميزنا عن الآخرين.
يضيف القاص خلف أنه لا بد من تصحيح تاريخي إذ ليس عام 1958هو تاريخ البدء بالتجريب وخوض غمار البحث عن الجديد في القصة العراقية، فالتاريخ المذكور كان الأدب فيه يخضع لهيمنة الأيديولوجيا، ولم يكن القاص -أو الروائي- يحمل همّا للتجديد، بل كان مصطلح التجريب غائباً عن الأذهان، كان الالتزام ومصطلحات أخرى كالكتابة الإيجابية هما الفاعلان في ساحة الإبداع وكان إبداعاً خجولاً لأنه يخضع للنقد الأدبي. تاريخ التجريب في العراق يمكن أن نحدده بتاريخ انقلاب 1963، كما يقول، حيث زجّ في السجون بالعشرات من المثقّفين اليساريين والأدباء.
برزت في تلك الفترة، كما يلفت خلف، أساليب التمرد والعبث الوجودي والسريالية والدادائية وغيرها من الاتجاهات والمدارس الفلسفية التي تدعو صراحة إلى الإعلاء من شأن الفرد مقابل قيمة الجماعة.
ويعبر عن رأيه في تلك السنوات بأنه لا يمكن لأحدٍ نسيانها حيث اندفعت مطابع بيروت إلى الترجمة وتيسرت فرصة قراءة الأدب العالمي الفرنسي (الوجودي) بالذات وحصل الاطلاع الكافي على تجارب خطيرة انعكست على حياتنا بالضرورة، تجارب كزمبرغ وجاك كيرواك وفلسفات بدت جديدة علينا كوجودية سارتر وكامو وسيمون دوبوفوار.
ويضيف “مقابل هذا السيل من الاتجاهات والرؤى والأشخاص ظهر روب غرييه أمامنا على مستوى القصة والرواية، الذي ترجم له الراحل سركون بولص قصة ‘الساحل’ كنموذج من قصص ما سمي آنذاك: جماعة الوسط أو الزاوية أو المكان. وظهر ناتالي ساروت وكلود سيمون، وفي المسرح برزت مسرحيات يوجين يونسكو الذي ترجم له المصريون خمس مسرحيات طليعية وصومائيل بيكت صاحب المسرحية الشهيرة: في انتظار جودو”.
ويؤكد خلف أن هؤلاء لعبوا دوراً مؤثراً في تجاربنا الإبداعية، ويعرج على المرحلة التاريخية الثانية التي حددها بنكسة حزيران كونها جاءت بتتمّة ما عاناه المثقف والأديب وأصبح البحث عن كل ما هو جديدٌ وغريب وفنتازي ومثير للعجب سمة بارزة في أدب الستينات من القرن العشرين.
أحمد خلف: كتابة الرواية صراع بين العفوية والموقف المعرفي
في تلك المرحلة كان هناك الكثير ممن يكتبون القصة والكثير ممن يحاولون صنع الجمال في المجالات الفنية والأدبية المتعددة، ولكن على الجانب الآخر لم يبق من الكثيرين إلا أسماء معدودة هي التي ارتبطت بتجريبية هذا الجيل الستيني.
يقول القاص خلف إنه “لا يمكن اختزال جيل الستينات بمصطلح التجريب فقط بل هناك تجارب استقرت من خلال التجديد الذي عرف به جيلنا، نحن مجدّدون بالضرورة التي حتمها ظرفنا القاسي وكذلك سعة اطلاعنا على تجارب مختلفة لكتّابٍ من آسيا وأفريقيا وأوروبا تحديداً. ويعبر عن هذه السعة في المعرفة والاطلاع على صنوف الثقافة كونها منحت الجيل فرصةً نادرةً في التجديد والتجريب أيضا”.
ويضيف عن واقع هذا الجيل اليوم “نحن لم نعد ندافع عن كياننا الإبداعي لأننا نجد دائما من يستثمر تجاربنا ويستفيد منها بكلّ طيبة خاطر ولا يشير إلى المصدر في حواراته، لكننا نعرف من يسطو ومن يستفيد ومن يتجانس معنا. نحن موجودون في روح الإبداع العراقي ولا غبار على ذلك قط. وهناك من يقر بهذا من الأجيال اللاحقة لنا”.
لم يرتح الشعب العراقي من الحروب، ربما حتى في الأزمان السابقة، سواء منها الحروب الخارجية أو الداخلية، السؤال المنبثق هنا هو هل كانت الحرب عاملاً مساعداً لتقدّم الأدب في العراق؟
القاص خلف في إجابته عن هذا السؤال يعتقد أنه لا توجد علاقة عضوية بين الحرب التي هي تهديم وتخريب وبين ما أسميته وحدات الحكاية التي هي بناء، بل يمكن لنا القول إن الحرب استطاعت بما تتّسم به من عصفٍ أن تلوّن حكاياتنا وتزيد نسبة الكآبة فيها أو الخسران والفقد.
ويشير إلى أن الحرب كما عرفناها نحن هنا داخل هذا البلد هي تدمير للإنسان وتحطيم لإرادته وشلّ لقدراته، وعليه فالحرب لم تقدم خيراً للأدب العراقي، لكن نبرة الخطاب الإبداعي تغيرت إلى حدّ واضحٍ في السرديات العراقية.
الاحتراف في الكتابة هو قمة ما يصل إليه الكاتب من كثرة التجارب والاطلاع على ما هو ضروري لفن الكتابة
الرواية والنوايا المبيتة
كتب أحمد خلف القصة القصيرة وأبدع فيها وكان واحدا من فرسانها وكتب متأخرا الرواية وكان له تصريح في ذلك بأنه لن يكتب الرواية إلا إذا وجد الفكرة المناسبة لها. يعتقد ضيفنا أن البحث عن الذات يسبق ماهية العمل وبنيته وشكله لأن مادة الموضوع تتشكّل خلال اللحظات الأولى للعمل.
ويضيف “مرات كثيرة أنوي كتابة نصّ قصصي لكني أكتشف أن ما أكتبه يمكن أن يكون فصلاً من روايةٍ أو العكس تماما. أجد نفسي في القصة القصيرة مثلما أجدها في الرواية أيضا والقصة القصيرة جدا. قلت هذا في منتصف الثمانينات من القرن الماضي بما معناه لا يمكن أن أكتب الرواية ما لم تكتمل لدي التجربة الذاتية التي تعينني على مطاولة النص الروائي. ويؤكد أنه الآن مؤهّل ومن تسعينات القرن الماضي”.
ويواصل قوله “إن ما أشعر به تجاه كتابة الرواية هو الصراع بين العفوية المطلقة في الكتابة وبين الموقف المعرفي الذي يسبق كتابة النص، وإدراك جوهر الصراع هذا يمكن أن نطلق عليه ‘الاحتراف في الكتابة’ وهو قمّة ما يصل إليه الكاتب من كثرة التجارب وسعة المعرفة والاطلاع على ما هو ضروري لفن كتابة الرواية”.
ويرفض القاص والروائي خلف ما يقال عن وجود إزاحة للقصة والشعر من قبل الرواية والفنون الإبداعية بل يبدي استغرابه من ذلك متسائلا عن الأسس التي تسند ضرورة إزاحة ظاهرة لظاهرةٍ أخرى أو جيل لجيلٍ آخر؟ ويؤكد على أنه ليس من المؤمنين بما يقال عن إزاحة الرواية للفنون الأخرى بل يرى الفنون كلها تعمل معا.
يقول خلف “هناك متطلبات قد تصل إلى مستوى تأكيد المصلحة الفردية أو مصلحة المؤسسة أو دار النشر، عندئذ تبرز الحاجة إلى ذلك النوع من الفن وتتصاعد وتيرة الطلب عليه، لكن هذا الأمر ليس قطعياً بل ربما يستمر لفترةٍ معينة ثم يبرز نوعٌ أو جنسٌ إبداعيٌّ آخر كنا نظن أنه تمّت إزاحته من المشهد.
ويرى خلف أن الجوائز تجبر روائييها على الالتزام بقانون العرض والطلب ولو بصورةٍ سريةٍ وغير معلنة، بل يكتسب الروائي معرفةً بشروط العرض من خلال أهداف وكذلك مسميات ولا توجد نوايا وأعمال بريئة أبدا. ويوضح أنه لا يوجد قيام جائزة من أجل الجائزة أو من أجل الرواية فقط.
لكنه من جانب آخر يعد الجوائز دافعا إلى العمل على تجويد الروائيين لأساليبهم وتهيئة روح المنافسة بين الروائيين الشباب ولا يحق للروائي الذي ختم الدرس كما يقال أن يخضع تراثه الروائي إلى لعبة الجوائز، وهي لعبةٌ خطرةٌ قد تجلب له ضرراً فادحا إذا فشل عمله الروائي في الفوز بالجائزة.