سلايد 1

لا شعر ولا شاعر من دون طابع خاص

ضمن مشروع “ملتقى حرف” لتبني طباعة الإبداع الشعري والأدبي صدرت مؤخراً عن دار مسعى المجموعة الشعرية الثانية للشاعر السعودي محمد الماجد حاملة عنوان “كأنه هو”. وتأتي هذه المجموعة بعد مجموعته الأولى “مسند الرمل” الصادرة في 2007 عن دار الانتشار.

ويعكف الماجد حاليا على كتابة السيرة الشعرية لمحمد الثبيتي، إذ لطالما كان على يقين بأن مفردة الثبيتي النافرة تخفي وراءها برّية شاسعة من الكلمات، فتضاريسه -حسب تعبيره- تشي بما هو أبعد من الأنطولوجيا النصيّة الظاهرة إلى مناخات وطقوس يمكن من خلالها أن يستصلح الماجد صحارى ما زالت تبدو جرداء وقاحلة، تعمّد أن يلغمها الثبيتي بإشارات ورموز من المؤمل في حال فكها أن تقود إلى ما بداخلها من كنوز مطمورة.

طيور الشفق

يغيب ضيفنا عن جميع قنوات التواصل الاجتماعية، من فيسبوك وتويتر وانستغرام، وغيرها، ويعترف بأن هذا يعد عطباً في الوعي العام، ولا يدري ما إذا كان مهتماً بإصلاحه أم لا، فهو لا يشك في أن آثار هذه القنوات اجتماعية ثقافية فكرية وثورية، ولكن مواضيع مثل الالتزام والتحضير شبه اليومي وأيضا التعرض الدائم للضوء لا تثير لديه سوى الخوف والارتباك، وربما يكون ذلك -حسب تعبيره- ضعفاً تمليه الطبيعة لا أكثر.

يعد الماجد من أهم الأصوات الشعرية في السعودية وفي الخليج لما يتمتّع به من لغة خاصة تتكئ على قراءة التاريخ والحفر فيه للوصول بنصه الشعري إلى مفردته الشمولية التي تحمل دلالاتها الوجودية والأسطورية والتاريخية في مناخ شعري واحد غير قابل للتجزئة. فهو ينطلق من مشروع كتابي كامل، رافضا لفكرة النصوص المجمعة في كتاب مطبوع.

يقول الماجد عن مناخات مجموعته الجديدة “كأنه هو إن “الصحراء بما تنطوي عليه من تناقض بين روحها الطاعنة في التصوّف وتضاريسها المليئة بالمفارقات الحسّية الفاقعة، والعشق بوصفه الترجمة التي عادة ما تلوذ بها الصحراء للتعبير عن ذلك التناقض، وأخيراً الوطن وهو يتلعثم أحياناً، ويخطئ في فهم الترجمة، وما ينتج عن ذلك الفهم من تشوهات في اللغة والواقع، كل هذه العناصر، أعني الصحراء والعشق والوطن، كان من المزمع أن تكون هي الركائز التي سيقوم عليها هذا العمل، ولا يوجد هناك ادّعاء بأن هذا ما حدث بالفعل، ولكنني سعيت جاهداً لأن أدفع نحو ذلك الاتجاه”.

التاريخ والأسطورة وحتى الحكاية الشعبية طيور شفق أتت من الغيب لتسعفنا في تخليص القصيدة من ألمها وشوائبها

قدّم الماجد خلال ثلاثين عاما من عمر تجربته، التي بدأت في الثمانينات من القرن العشرين، العديد من الأشكال الشعرية والاشتغالات الأدبية على مستوى هندسة النص والكتابة الإبداعية. ويرى أن أسئلة الشاعر بما أنها كبيرة وأساسية فربما ظلت هي الأسئلة نفسها في جميع مراحل تجربته. لكنه عليه أن يفكر في كيفية بناء النص وفق رؤيته.

يقول “الجديد غالباً ما يكون في كيفية العمل على اجتراح طرق وأجوبة لم نكن لنكتشفها من قبل، أجوبة غالباً تتعلق بمنابع الكتابة الحقيقية، طبيعتها وكيفية الوصول إليها، البنى النصية وكيفية عملها، أساليب تطويرها، وأخيراً جدلية الشكل الشعري: العمود، التفعيلة، أو النثر. وفي ما يتعلق بهذا السؤال الأخير يبدو أن النثر ضمن التبرير الفلسفي لطبيعة الحياة المعاصرة وأسئلتها الصعبة والمعقدة، قد كسب المعركة. ومنذ زمن فهو في ما أعتقد الشكل الأكثر وفاء للمهمة الشعرية في طورها الحديث”.

يوظف الماجد التاريخ والحكايات والأسطورة في نصه، وكأنها نظام خاص في بنية خطابه الشعري، هذا التوظيف الذي يعكس ضبابية شعرية خاصة، ومجموعة تأويلات مفتوحة للنص تقتضيها طبيعتها من حيث حملها للرمز القابل للتفسير المفتوح.

وعن هذا الشأن يعلّق شاعرنا “في التاريخ والحكايات والأسطورة ما يساعد على حمل المهمة الفنية بشكل عام إلى آفاق ومديات من الجمال لا يمكن في العادة الوصول إليها دون عون أو مساعدة. مهمة تشبه إلى حد بعيد مهمة طائر الشفق حين يهبط مع كل غروب ليعمل بشكل دؤوب ويومي على جر نهاراتنا المتعبة من ياقاتها الزرقاء إلى عشه الليلي، حيث من هناك تبدأ المجرات والنيازك والشهب في حقنها بمنامات سديمية لتنسيها كل ذلك التعب. التاريخ والأسطورة وحتى الحكاية الشعبية ليست أكثر من طيور شفق أتت لنا من الغيب لتسعفنا في تخليص القصيدة من ألمها ومن شوائب العادي واليومي ثم شدها بعد ذلك إلى سيقان وأعشاش من الأخيلة والظلال أو قل من الواقعية السحرية أو حتى من الفانتازيا. هذا من الناحية الجمالية، أما إذا أردنا أن نكون نفعيين فيمكن لذلك الثلاثي أيضاً أن يقدم لنا العون كي نعيد قراءة التاريخ والسياقات الاجتماعية من وجهة نظر فنية بحتة، قراءة ستكون أقرب حينها إلى الفهم الأركيولوجي منها إلى الفهم التاريخي الصارم”.

حديث عن الصحراء والعشق والوطن

شفرة خاصة

لا يرى محمد الماجد نفسه مراقباً جيداً للحركة النقدية في السعودية، يقول “ما تيسّر لدي لا يشي بمفارقة لما كانت عليه الحركة من رطانات وتدريبات على صبّ القوالب ذاتها، تدريبات لا تخلو من “البطش اللفظي” و”الإرهاب بالمصطلحات” عند البعض، وهذان التعبيران أستعيرهما من العلاق وأراه محقاً في ذلك، فهذا البعض بالإضافة إلى تبجيله المبالغ فيه للمصطلح النقدي، يحاول دائماً إما إحالته إلى مترادفات لسانية باردة وإما تعويمه في بحر من الأدوات الرياضية الجافة، وهم دائماً يفعلون ذلك ضمن سياج من الخطب المحفوفة بالطبول والكلمات النابية. لا تتوقع من المصطلح الذي يواجه على أيدي البعض مصيرا يشبه مصير قطعة الحرير تلك إلا أن يعاني من تشويه وسوء استخدام إذا لم أقل ‘تواطؤا‘ منهم على تغييب دلالته الحقيقية”.

ويضيف في الشأن نفسه “لطالما كان الشرط الشعري الحداثي يضع الخروج على السياق بما فيه سياق الحداثة نفسه ضمن درسه النقدي، ولكن ما فعلناه –وفقاً لفتاة الشرفة– أننا أثرنا الغرائز بين المارة في مشهد لا يشي –فضلاً عن أي رغبة في الخروج على السياق– سوى بتكريس الحالة الشعبوية وتعزيز مبدأ النميمة”.

يعتقد الماجد أنه لو نجحنا في جمع فصول المشهد الشعري السعودي الموزعة هنا وهناك فسنحصل على ديوان مكتمل، ويرى أنه سيكون متوفراً على السمات التي تسمح لنا بنعته بالحداثي.

ويقول الشاعر “إن هذا الأمر في حكم المنتهي، ولكن المأزق الأبرز في رأيي سيكون في ما إذا كانت لدينا القدرة على إعادة تفكيك ذلك الديوان ثانية لأن الفصول ساعتها ستكون قد ذابت في نسيج واحد ولم يعد بالإمكان تمييزها ولا الإشارة إلى من كتبها. ما أريد أن أصل إليه ودون أن أقع في فخ التعميم هو الآتي: ما لم يمتلك أحدنا شفرته الخاصة لن يكون سوى فصل مكرر في ديوان ضخم”.

إغلاق