جمعيات ومنظمات
عارك دياب الدونكيشوتيّة: باقٍ لغياب البديل…حتى إشعار آخر
ذهب دياب بعيداً في افتعال العراضات الإعلاميّة حول معاركه الوهميّة، ربّما لإدراكه أن حكومته باتت في حكم المشلولة، وأن هناك ضرورة لملء المشهد بسجالات وخطابات توحي بوجود خصوم يعيقون تقدّم الحكومة في ملف الانهيار المالي. في الوقت الراهن، سيستمر الرجل في ملء منصبه، لغياب التسوية القادرة على إنتاج البديل المناسب. وحتّى ظهور هذا البديل، سيستمر دياب في رحلة البحث عن مؤمرات يمكن الحديث عنها لتبرير إخفاقات حكومته.
فمن يقرأ كلام رئيس مجلس الوزراء في جلسة الحكومة، لا يسعه سوى أن يتذكّر شخصيّة دونكيشوت الروائيّة الشهيرة، التي تجسّد الفارس الذي مضى هائماً على وجهه ليفتعل معارك من نسج خياله مع طواحين الهواء والأغنام. امتلأ خطاب الرجل بالكلام عن “الجهات الدوليّة والمحليّة التي تعمل على محاصرة اللبنانيين وتجويعهم”، وعن لعبة الدولار التي باتت “مكشوفة ومفضوحة”. غريم دياب، كما يدّعي، هي الجهات التي تعمل لتكون “الخسائر ضخمة”، وليكون “الاصطدام مدوّياً”، ولتكون النتيجة “تحطّماً كبيراً”. يتحدّث الرجل عن رسائل بالحبر السرّي، ورسائل بالشيفرة، ورسائل بالواتساب، ومخطّطات، وأمر عمليّات…إلخ. لم يسمِّ دياب أحداً من هذه الجهات الدوليّة والمحليّة.
لم يعد لدى دياب نفسه شك بأن حكومته أحيلت إلى الموت السريري، بعد تعثّر مسار مفاوضاتها مع صندوق النقد
عمليّاً، لم يعد لدى دياب نفسه شك بأن حكومته أحيلت إلى الموت السريري، بعد تعثّر مسار مفاوضاتها مع صندوق النقد، وفشلها في التعامل مع تداعيات الانهيار المالي من جميع الجهات. فيما بدأ الأقطاب المشاركون في الحكومة بالتملّص منها، من التيّار الوطني الحرّ، الذي بدأ يشكو انخفاض إنتاجيّتها، إلى نبيه برّي الذي أصبح يمتعض من تأخرها في تنفيذ خطّة طوارىء ماليّة فعليّة، وصولاً إلى العديد من الوزراء أنفسهم.
ببساطة لم يعد للحكومة سبب للبقاء. لكن ما يؤخّر وفاتها الفعليّة، بعد موتها السريري، هو عدم نضوج طبخة الحكومة المقبلة. هذه الطبخة تنتظر توفير التوافق على العديد من الأمور، من هويّة رئيس الحكومة القادم، إلى موقع حزب الله فيها في ظل حاجة الحكومة إلى دعم دولي واسع، وصولاً إلى طريقة مشاركة الأحزاب فيها وتوزّع الحصص.
يشير المراقبون إلى أنّ التوصّل إلى هذا النوع من التسويات سيحتاج المزيد من الوقت، فيما سيكتفي دياب في هذا الوقت بأداء هو أقرب لمنطق تصريف الأعمال.
لكنّ دياب استدار نحو حاكم المصرف المركزي الذي استدعاه ليسائله عن فشل إجراءات المصرف المركزي في ضبط سعر الصرف، ملمّحاً إلى مسؤوليّة الحاكم في مسألة تدهور سعر الصرف.
أيّ متابع لتطوّرات الأزمة الماليّة أن لبنان لا يعاني فعليّاً من أيّ حصار مالي داخلي أو خارجي
عمليّاً، يدرك أيّ متابع لتطوّرات الأزمة الماليّة أن لبنان لا يعاني فعليّاً من أيّ حصار مالي داخلي أو خارجي. لا بل يمكن القول إن أي جهة دوليّة لم تبادر حتّى إلى محاولة التضييق ماليّاً على لبنان، أو محاولة التشدّد في شحن الدولار النقدي أو إجراء التحويلات الماليّة إليه، باستثناء الحالات التي قلّصت فيها المصارف المراسلة تسهيلات المصارف اللبنانيّة لديها لأسباب ائتمانيّة مصرفيّة. وإذا كانت توجّهات السياسة الخارجيّة اللبنانيّة لا تثير شهيّة الولايات المتحدّة وبعض دول الخليج للتضحية من أجل إنقاذ لبنان، فمن الأكيد أيضاً أن هذه الدول لم تبادر لإتخاذ مواقف عدائيّة من شأنها عزل البلاد ماليّاً أو إعاقة نهوضها.
ومن ناحية أخرى، لا يوجد أدلّة على تورّط أيّ جهة محليّة أو دوليّة بعمليّات مضاربة مفتعلة أو مقصودة لضرب قيمة الليرة اللبنانيّة، فيما يبدو من الواضح أن انهيار سعر الصرف يرتبط اليوم بعوامل عديدة تبدأ من توقّف التحويلات إلى لبنان ونظامه المالي، وتمر باعتماد الدولة على الاستدانة من مصرف لبنان للإنفاق، وصولاً إلى الضغط الذي سبّبته الأزمة الاقتصاديّة في سوريا. أمّا رسائل الحبر السرّي والرسائل المشفّرة، فتبدو أقرب إلى مشاهد هوليوديّة في خيال الرجل الخصب.
وإذا ما وضعنا جانباً كلّ الكلام عن هذه المؤمرات الغامضة التي اختار دياب تجهيل فاعلها، لا يبقى سوى شمّاعة حاكم المصرف المركزي التي ما زال يصرّ على تحميلها كل أسباب الفشل في التعامل مع أزمة انهيار سعر الصرف. عمليّاً، حمّل دياب الحاكم من قبل، مسؤوليّة انهيار سعر الصرف كونه لم يضخّ ما يكفي من دولارات في الأسواق للدفاع عن سعر صرف الليرة، مع العلم أن أيّ مراقب كان يدرك أن أقصى ما يمكن أن يطمح له الحاكم في هذا النوع من الأزمات، هو التشدّد في تقنين استخدام الاحتياطات المتبقية لديه من العملة الصعبة، للتمكّن من دعم السلع الحيويّة لأطول فترة ممكنة، ريثما يتمّ إيجاد الحلول الجذريّة للأزمة الماليّة من قبل السلطة التنفيذيّة نفسها.
وإذا ما وضعنا جانباً كلّ الكلام عن هذه المؤمرات الغامضة التي اختار دياب تجهيل فاعلها، لا يبقى سوى شمّاعة حاكم المصرف المركزي
فدياب يتناسى هنا أن الأزمة النقديّة المتعلّقة بسعر صرف الليرة، هي مجرّد نتيجة للأزمة الاقتصاديّة الشاملة التي تضرب البلاد، والتي ينبغي مقاربتها من خلال خطّة متكاملة تعمل عليها الحكومة. أمّا دور حاكم المصرف المركزي، فلا يمكن أن يعوّض في أيّ حال من الأحوال عن غياب هذه الخطّة. وبغياب هذه الخطّة، لا يستطيع الحاكم سوى العمل على إدارة ما يملكه من عملات أجنبيّة بتحفّظ.
في كلّ الحالات، سار الحاكم في خطّة ضخ الدولارات التي أصرّ عليها دياب، والتي تحوّلت لاحقاً إلى مثال يُضرب في الإجراءات البعيدة كل البعد عن بديهيّات علم الاقتصاد والمعالجات النقديّة. وبعد تعثّر هذه الخطّة، انتقل دياب إلى مساءلة الحاكم عن أسباب فشل هذه الإجراءات، بدل مساءلة الحكومة عن هدف الإصرار على هذه الخطّة التي حذّر منها الحاكم قبل تطبيقها.
يدرك دياب أنّ الحاكم باقٍ في منصبه على المدى المنظور، وخصوصاً بوجود الغطاء السياسي الذي توفّر له من قبل رئيس المجلس النيابي. لكن من الواضح أن الرجل سيظلّ متجهاً نحو استهداف الحاكم خلال المرحلة القادمة، في محاولة لتحميله مسؤوليّة الفشل في التعامل مع أزمة سعر الصرف، وقد يكون في ذلك رهان على تقبّل جزء من الرأي العام لهذا النوع من الاتهامات للحاكم، في ظلّ السخط الذي تعبّر عنه شرائح اجتماعيّة واسعة على القطاع المصرفي والخسائر التي تحمّلها المودعون فيه.