ايرانسلايد 1مجلات ودوريات

فرقة موسيقية نسائية تسعى لكسر التقاليد المجتمعية في إيران

أنهت الفرقة أداءها الغنائي لتقابل بالتحية وقوفا وبالتصفيق من الرجال الحاضرين، والصيحات المشجعة من السيدات في الصالة… مشهد قد يكون تقليديا في كل مكان، لكنه غير مألوف في إيران، لا سيما لفرقة تتألف من أربع نساء.

وقال ساسان لزوجته نيغين: ” كنت سعيدا جدا بتواجدي هنا وتمكني من رؤيتك”. تبلغ نيغين 36 عاما، وهي واحدة من أربع موسيقيات يؤلفن فرقة “دينكو” (تلفظ بالفارسية دينغو)، في ختام الأمسية التي أقيمت في مدينة بندر عباس على الساحل الجنوبي للجمهورية الإسلامية.

قبل هذا الحفل، لم تتح لساسان حيدري، زوج نيغين منذ عشرة أعوام، رؤية شريكة حياته تؤدي على مسرحٍ، نظرا للقيود والتقاليد الدينية في إيران التي تحدّ بشكل كبير من إمكانات تقديم أداء غنائي نسائي في مكان عام.

وتوضح سحر طاعتي، المديرة السابقة لقسم الموسيقى في وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيرانية لوكالة فرانس برس أن نصوص القوانين المحلية لا تمنع النساء بالمطلق من الغناء أمام جمهور مختلط. لكنها تشير الى أن غالبية رجال الدين في الجمهورية الإسلامية يحرّمون الأداء الغنائي للنساء. يضاف إلى ذلك النظرة السلبية عموما تجاه الموسيقى والخشية من أن تبعد المؤمنين عن أداء واجباتهم الدينية.

منع الموسيقى بعد الثورة الإسلامية في العام 1979

ومنعت السلطات الإيرانية النشاطات الموسيقية بعد الثورة الإسلامية في العام 1979، قبل أن يتم في مراحل لاحقة تخفيف هذا الحظر بشكل تدريجي، وبنسب متفاوتة في فترات مختلفة، من دون أن يتم رفعه بالكامل.

وأفسح المجال في المراحل الأولى أمام الموسيقى “الثورية” التي أدت دورا في تحفيز المقاتلين لا سيما خلال الحرب الإيرانية العراقية (1980-1988). وتم التركيز في مراحل لاحقة على الموسيقى التقليدية، بينما بقيت الغربية ممنوعة لا سيما أنها تعد في نظر السلطات من أدوات “الغزو الثقافي”.

في الألفية الثالثة، عرفت الموسيقى فترة انفتاح في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي (1999-2005) ما لبثت أن تقلصت في عهد خلفه المحافظ محمود أحمدي نجاد.

ومنذ بدء عهد الرئيس الحالي حسن روحاني عام 2013، خفت القيود مجددا.

أ ف ب
إحدى عضوات الفرقة الإيرانيةأ ف ب

الغناء الانفرادي مازال ممنوعا

لكن هذه القيود لم يتم رفعها بالكامل: فإقامة أي أمسية موسيقية ترتبط بنيل موافقة مسبقة من وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي. ولا يزال من شبه المستحيل على أي مغنية ان تقدم أداء فرديا، ما لم يكن ذلك أمام جمهور من النساء حصرا.

وتوضح طاعتي أنه “يمكن للنساء الغناء أمام جمهور مختلط في حال كانت امرأتان على الأقل تغنيان في الوقت عينه، أو في حال غنت المرأة برفقة رجل، بشرط أن يبقى صوته موازيا لصوتها أو أعلى”.

هذا ما سمح بإقامة عرض في شتاء 2018-2019 للمسرحية الغنائية “لي ميزيرابل” (“البؤساء”) المستوحاة من رواية الأديب الفرنسي فيكتور هوغو. فالأداء الغنائي النسائي المنفرد على المسرح رافقه صوت آخر من مكان قريب، لئلا تكون المؤدية منفردة.

فرقة “دينكو”

بدأت رحلة فرقة “دينكو” في أواخر العام 2016 في مدينة بندر عباس على سواحل مضيق هرمز. وبحسب المغنيتين مليحة شاهين زاده (34 عاما) وفايزة محسني (31 عاما)، بدأت الحكاية بنقاش على شاطئ البحر.

قررت الشابتان اللتان تعزفان الموسيقى “بدء العزف على آلات موسيقية” تقليدية بعد ذلك النقاش.

وانضمت إليهما سريعا نيغين التي نشأت معهما في الحي السكني ذاته، قبل أن تلتحق بهن نوشين يوسف زاده والتي تبلغ 26 عاما، بعد تعارف عبر تطبيق إنستغرام.

ونشأت “دينكو”، وهي مفردة تعني باللهجة المحكية لأهالي بندر عباس، الخطوات الأولى للطفل الصغير. في البداية، كانت فايزة التي تعزف الطبل ذا الجهتين، المغنية الوحيدة في الفرقة، ترافقها مليحة على طبل تقليدي يعزف باستخدام العصا، ونيغين على نوع آخر من الطبول ذات الجهتين، ونوشين على العود.

ووفق هذا التقسيم، اقتصر أداء الفرقة في المرحلة الأولى على الجمهور النسائي، قبل أن يدرك الرباعي أن الغناء بشكل جماعي سيفتح له باب تقديم أمسيات أمام جمهور مختلط. وتقول فايزة محسني إن الغناء الجماعي لم يكن سهلا، “فهذا يعقّد الأمور بالنسبة إلينا، لأنه من الأسهل دائما على المغنية أن تركز على أدائها، بينما تقوم الأخريات بالعزف والتركيز على آلاتهن الموسيقية”.

في فيلم وثائقي بعنوان “نو سونغز لاند” يعود تاريخ إنتاجه الى العام 2014، تعرض المؤلفة الموسيقية الإيرانية سارة نجفي الصعوبات التي واجهتها خلال سعيها لتنظيم حفل تؤدي فيه سيدات، بشكل منفرد وجماعي، أمام جمهور مختلط من الرجال والنساء. وتشرح نجفي أنها قوبلت بإجابات من قبيل “انسي الأمر، سيكون مستحيلا”، من مسؤولين في وزارة الإرشاد. لكن بعد نحو عام ونصف عام من المحاولة، تمكنت من إقامة الحفل، ونالت إذنا لذلك في اللحظات الأخيرة.

وآثرت نيغين حيدري عدم الدخول في تفاصيل الصعوبات التي واجهتها فرقة “دينكو”، لكنها تختصرها باضطرار الى “التخلي عن الفكرة (إقامة احتفال)” معظم الأحيان.

مغنيات على المسرح في بندر عباس

تمكنت الفرقة في تموز/يوليو 2018 من تقديم عرض غنت خلاله النساء وعزفن معا، أمام جمهور مختلط في مهرجان العود في شيراز في جنوب إيران.

في العام الماضي، تقدّمت الفرقة بطلب للمشاركة في “المهرجان الدولي لموسيقى الخليج الفارسي” بعدما علمن بأنه سيقام في مدينتهن في نيسان/أبريل 2019. وأتى الرد الإيجابي قبل أيام فقط من الموعد المحدد للمهرجان.

أ ف ب
عرض مسرحي للفرقة الإيرانيةأ ف ب

اضطرت الموسيقيات إلى إجراء تمارين مكثفة في الوقت القصير المتاح “من أجل التمكن من الغناء ككَورَس (جوقة)”، وفق ما أوضحت مليحة شاهين زاده.

على المسرح في تلك الأمسية، وضعت الموسيقيات كل طاقتهن في تقديم برنامج من الموسيقى البندرية (نسبة الى جنوب إيران)، بإيقاعات سريعة ترافق كلمات أغنيات شعبية تم تناقلها من جيل الى آخر. لاقى الأداء استحسان الجمهور ولجنة تحكيم المهرجان التي خصت “دينكو” بجائزة. في ختام الأمسية، اختصرت نوشين شعورها لفرانس برس بالقول “أحسسنا، وأخيرا، بأن جزءا جديدا من المجتمع… لاحظ وجودنا”.

وتابعت نوشين: “أثمرت كل هذه التمارين وكل هذا الحماس من أجل الأداء أمام جمهور مختلط (فرصة نادرة لم تتكرر منذ ذلك الحين)، ما أنسانا كل لحظات قلق الأيام التي سبقت: الخشية من ألا نكون على قدر الحدث، والخوف (حتى اللحظة الأخيرة) من أن يتم إلغاء الحفل”.

بالنسبة الى الفرقة، المغنيات “رائدات” يحظين بدعم من عائلاتهن. وتبدّل شكل الفرقة منذ أمسية العام الماضي، إذ رحلت عنها نيغين على خلفية “تباينات فنية”، وحلّت بدلا منها عازفة الغيتار مينا مولايي.

وإضافة الى الصعوبات التقليدية، جمّد تفشي فيروس كورونا المستجد نشاط الفرقة الى حد كبير. رغم كل الصعوبات، تواصل المغنيات الإيرانيات إسماع أصواتهن عبر الأثير في أنحاء مختلفة في البلاد.

وتقول مليحة: “فترة الحجر كانت بالنسبة إلي فرصة لإجراء بحوث حول موسيقى منطقتنا وأيضا تحسين تقنية العزف… حتى الآن، يقتصر ما نقوم به على استعادة مقطوعات من التراث الفولكلوري البندري، لكن بدأنا بالتفكير بتأليف مقطوعات أصلية”.

على متن سيارات الأجرة في طهران، ليس مستغربا أن يصدح من المذياع صوت غوغوش، المطربة التي عرفت شهرتها قبل انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، وعاودت الظهور من أميركا الشمالية في الألفية الثالثة بعد قرابة عقدين من الصمت في بلدها الأم.

واتخذت بعض المغنيات من دول أجنبية مقرا لهن، ولا تزال أصواتهن تجد طريقها الى بلدهن رغم المعوقات، مثل كلاره شيباني المقيمة في الولايات المتحدة، أو السوبرانو داريا دادور المقيمة في فرنسا والتي تمكنت من تقديم أداء منفرد أمام جمهور مختلط في بلادها في مطلع الألفية الثالثة، في فرصة نادرة لمغنية بعد قيام الجمهورية الإسلامية.

المصدر: يورونيوز

إغلاق