سياسة
التراث المجهول للرحلات العثمانية
الرحلات العثمانية على الرغم من أهميتها التاريخية والسياسية والأدبية ظل الاهتمام بها من قبل الباحثين العرب والأتراك في أدب الرحلة محدودا. ويعد الباحث محمد زيد عيد الرواضية واحدا من أهم المشتغلين على هذا التراث أو المعنيين بتحقيقه ودراسة خلفياته التاريخية والحضارية.
تنقسم هذه الرحلات العثمانية إلى نوعين من الرحلات وفقا لموضوع الرحلة، النوع الأول هو الرحلة السياحتنامه، ذات الهدف السياحي، أما النوع الثاني من الرحلة فيسمى السفارتنامه التي يكلف صاحبها بمهمة تمثيل السلطنة في الدول الأوروبية.
الرحلات الأخيرة ارتبطت بعملية الانفتاح التي قامت بها السلطنة العثمانية على الغرب بعد تاريخ طويل من الحروب والعداوة بهدف التعرف إلى أسباب تقدم المجتمعات الغربية اقتصاديا وعلميا وثقافيا، وكيفية الاستفادة من هذا التقدم في تحقيق إصلاح وتطوير الدولة العثمانية في عهد السلاطين الإصلاحيين. رحلة من فيينا إلى فيينا لمحمد صادق رفعت باشا تنتمي إلى النوع الأول من الرحلة السياحتنامة على الرغم من أن صاحبها قام بها بموافقة من السلطنة. تقدم الرحلة وصفا دقيقا لمشاهداته الرحالة وتسجيلا مكثفا لانطباعاته عن زيارته القصيرة التي قام بها إلى إيطاليا لحضور مناسبة رسمية هناك.
الرحلة العثمانية
يستعرض الباحث تاريخ الرحلة العثمانية وأنواعها وأهم أعلامها الذين يعد الرحالة الشهير أوليا جلبي أشهرهم وأغزرهم نتاجا بعد أن قضى أكثر من أربعين عاما يتنقل بين البلدان الخاضعة للسلطنة العثمانية، حتى اعتبر أهم مرجع في وصف هذه البلاد في تلك المرحلة.
ويشير الباحث إلى التشابه القائم بين الرحلات السياحية والرحلات الدبلوماسية نظرا لأن الاختلاف يتعلق فقط بطبيعة مهمة الرحالة. كذلك يؤكد أن الرحلات السفارية العثمانية بلغت تسعا وأربعين رحلة شملت النمسا وفرنسا وروسيا وبولونيا وسويسرا والهند وبروسيا والمغرب وإسبانيا وبريطانيا وإيطاليا.
تكمن أهميّة هذه الرحلات في كونها تقدم صورة جديدة عن عالم يتمّ اكتشافه من جديد، لكن المفارق أن هذه الرحلات ما زالت عبارة عن مخطوطات لم تر النور بعد، خاصة وأن نصوص بعضها ما زال مطبوعا بالعثمانية، إضافة إلى التفاوت في حجم وأهمية هذه الرحلات.
هذه الرحلة التي قام بتحقيقها وقدم لها الباحث المختص في الرحلات العثمانية زيد عيد الرواضية فازت بجائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات لعام 2016-2017 نظرا لأنها تشكل وثيقة مهمة عن توجهات ما يعرف بعهد التنظيمات
عن الرحلة
هذه الرحلة التي قام بتحقيقها وقدّم لها الباحث المختص في الرحلات العثمانية زيد عيد الرواضية فازت بجائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات لعام 2016-2017 نظرا لأنها تشكّل وثيقة مهمة عن توجّهات ما يعرف بعهد التنظيمات الذي كشف عن توجهات الدولة العثمانية الجادة والجديدة للتغيير والاستفادة من منظومة القوانين الغربية في مختلف مجالات الحياة، إضافة إلى استلهام روح الحداثة الغربية في شؤون الدولة المختلفة، ما عدّ محاولة جريئة ومغامرة كبيرة للتخلي عن النظم الإسلامية القديمة والاستفادة من النظم الغربية الحديثة. الرحّالة محمد صادق رفعت كان واحدا من الشخصيات الإصلاحية التي ساهمت في استيعاب روح الحداثة الغربية والإفادة منها في مختلف ميادين الحياة وإدارة الدولة.
على المستوى الأسلوبي تتميز الرحلة بالإيجاز والتناسق والسلاسة والتحرّر من اللغة البلاغية والتنميق ما جعلها تميل إلى الطابع الكلاسيكي البسيط وفقا لتوصيف الأديب التركي أحمد طانبينار لها. الأهمية الأكبر للرحلة تتمثل في معرفة الرحالة بتاريخ البلدان الأوروبية وأوضاعها السياسية كما يظهر ذلك من خلال حديثه عن أسباب قيام بعض الدول كالنمسا.
وعلى غرار الأسلوب التقليدي المتّبع عادة عند كتاب الرحلة يبدأ بالحديث عن الدوافع التي تقف وراء هذه الرحلة، والتي تتمثل في دعوته لحضور تنصيب الإمبراطور فيرديناند الأول ملكا على مملكة لومبارديا فينيتو الإيطالية.
تقديم الرحلة
يبدأ الباحث الرواضية تقديمه للرحلة باستعراض مكثف للموقع الذي كانت تحتله روما بالنسبة إلى السلطنة العثمانية وما كانت تسعى إليه من اجتياح متدرّج للموانع التي كانت تقف في طريق تحقيق سيطرتها عليها. هذا الخوف الدائم من الأطماع العثمانية دفعت حكام البندقية إلى ترتيب خمس عشرة محاولة اغتيال للخلاص من السلطان محمد الفاتح حتى تمكنت من تحقيق هدفها. لقد دفع هذا الهدف بالسلطنة لاستغلال الصراعات والانقسامات التي كانت تحدث بين الدول الأوروبية لصالحها، لذلك كانت تحتاج دائما لمعرفة الأوضاع الداخلية لهذه الدول لكي ترسم سياساتها وتحدد علاقاتها معها.
المشكلة التي كانت تعاني منها السلطنة كانت تتمثل في عدم معرفة اللغات الأوروبية للتواصل مع سفاراتهم في إسطنبول، لذلك اعتمدت على المسيحيين المحليين في حلّ هذه المشكلة. عدم إقبال العثمانيين على تعلم اللغات الأوروبية قابله غياب الدوافع لزيارة بلدانهم نظرا لاعتبار تلك البلاد بلاد الكفار التي لا يجوز للمسلم السفر إليها، ناهيك عن شعور العثمانيين بالتفوق وارتباطهم الشديد ببلدهم.
افتقد عصر السلاطين الأول لوجود سفارات دائمة لهم في البلدان الأخرى، وكانت علاقاتهم بها تعتمد على المفاوضات التي تتمّ في الظروف الخاصة من قبل رجالات البلاط الذين كانوا يكلفون بصورة رسمية بها، وتنتهي مهمتهم مع انتهاء هذه المفاوضات. تبدل هذا الوضع في العهود الأخيرة من تاريخ السلطنة وكانت أول سفارة لهم في لندن. تعد هذه المرحلة تحولا كبيرا في علاقة العثمانيين مع الغرب رافقها إنشاء أول مطبعة إسلامية في إسطنبول عام 1727 والاستعانة بالخبراء الأجانب لا سيما الفرنسيين منهم لتحديث المؤسسات العسكرية إضافة إلى انتشار الطراز المعماري الفرنسي.
رحلة دبلوماسي تركي إلى إيطاليا القرن الثامن عشر
شكل تعلم اللغات الأوروبية عامل الانفتاح الأول على الغرب، نظرا للدور الذي تلعبه اللغة في معرفة الأفكار والنظريات الحديثة التي ستسهم في تطوير المعرفة والرؤية العثمانية للعالم. ولم يكن دور السفارات والعلاقة مع الجاليات غير المسلمة في إسطنبول أقلّ شأنا في الوصول إلى هذه الأفكار الجديدة. كل هذا كان نتيجة طبيعية لشعور السلطنة بالحاجة إلى الحفاظ على وجودها مع صعود القوى الأوروبية وتوسّعها، الأمر الذي جعل الحاجة لمن لديهم معرفة بهذه اللغات يزداد، ما شكل تحوّلا مهما جعل النخبة الجديدة في السلطنة تتشكل من خارج المؤسسة العسكرية وكان السفراء في طليعة هذه النخبة الجديدة.
ويرى الباحث أن هذه التحولات في مواقف وسياسات السلطنة يعبر عن آثار الهزيمة الحضارية التي كانت تعيشها آنذاك، حيث شكل تراث الرحلات العثمانية عنوانا هاما من عناوين هذه المرحلة.
مؤلف الرحلة
يعد الرحالة محمد صادق رفعت باشا واحدا من كبار رجالات الدولة العثمانية الذين تنقلوا في مواقع عديدة كان آخرها تكليفه بمهمة السفارة إلى فيينا، وهي المرحلة التي دوّن فيها مذكراته عن أحوال أوروبا في تلك الفترة، وطالب فيها (بضرورة اتّباع الإجراءات البيروقراطية الحكيمة مع التأكيد على أهمية التجارة والصناعة).
يتبع الرحالة في مدونته الرحلية الأسلوب المتبع عادة في كتابة الرحلة، فبعد ذكر دواعي الرحلة يبدأ بوصف مشاهداته في عشرات المدن والقرى التي نزل أو مرّ فيها، إضافة إلى وصف الحصون والقلاع والكنائس والبساتين ومختلف المظاهر العمرانية والحضرية الأخرى. ولعل ما يميز أسلوب الرحلة هو الإيجاز تارة والاسترسال تارة أخرى في هذا الوصف، كما هو الحال في حديثة عن مدينة فيينا. كذلك يلاحظ توقف الرحالة عند المشاهدات التي لها علاقة بالدولة العثمانية أو المسلمين كما هو الحال بالنسبة إلى المخطوطات الإسلامية والمكتبات. بالمقابل نادرا ما كان يتوقّف الرحالة عند وصف الحياة الاجتماعية في البلاد الإيطالية نظرا لتآلفه مع هذه المظاهرة بسبب إقامته في هذه البلاد.
لقد لجأ الباحث في تحقيق الرحلة التي تتألّف في بنيتها المعجمية من ثلاث لغات، هي التركية والعربية والفارسية، إلى جعل الترجمة قريبة من مألوف القارئ العربي، فأبقى على العربي منها إلا عند الضرورة بسبب الدلالات المختلفة لهذه المفردات في اللغة العثمانية. كما عمد إلى تقسيم نص الرحلة إلى أقسام متعددة وفقا لمواضيعها، إلى جانب التعريف بالأعلام الواردة فيها وترقيم الصفحات وفقا لما عليه الحال في النسخة التي اعتمد عليها الباحث في تحقيق هذه الرحلة.