أخبار
آن بلانت: الأرستقراطية الإنجليزية التي جالت على القبائل العربية بحثاً عن الخيول الأصيلة ودفنت في القاهرة
رغم نشأة آن بلانت الأرستقراطية وزواجها من شاعر إنجليزي معروف، وكونها حفيدة الشاعر الإنجليزي الكبير اللورد بايرون، لكنها كرست كل حياتها للخيول العربية الأصيلة. ويعود لها الفضل في تعريف العالم على الخيول العربية التي أعجب بها الكثيرون لجمالها وبهائها ورشاقتها ولطباعها النبيلة.
سافرت البارونة آن بلانت كثيراً إلى الشرق الأوسط ووقعت في حب الصحراء وهناك تعرفت على الحياة البدوية وعادات البدو، ونسجت علاقة جيدة مع شيوخ العشائر العربية في سوريا ونجد وكذلك أسرة محمد علي باشا في مصر.
ولشدة تعلقها بالخيول العربية، أمضت السنوات الأخيرة من حياتها في مصر قرب القاهرة، لتقيم في مزرعة تربية الخيول التي أنشأتها هناك، وتوفيت في مصر ودُفنت فيها.
ولدت البارونة آن بلانت عام 1837. وماتت أمها، عالمة الرياضيات آدا وابنة الشاعر بايرون، عندما كانت في الخامسة عشرة من العمر، فاصطحبها والدها الأرستقراطي، ويليام كينغ، في أسفاره حول العالم، تعلمت خلالها اللغات العربية والألمانية والإيطالية والفرنسية والاسبانية.
وكانت تمارس هواية الرسم خلال هذه الأسفار وتضع تخطيطات للمناظر الطبيعية، فقد كانت رسامة ماهرة، إذ تعلمت الرسم على يد الرسام الإنجليزي الكبير جون راسكين.
“مهمة نبيلة”
خلال إحدى رحلاتها التقت بزوجها المستقبلي الشاعر ويلفريد بلانت الذي كان مهتماً بالأوضاع السياسية في الشرق الأوسط. نجحت آن في اقناع ويلفريد في القيام بـ “مهمة نبيلة” ألا وهي الحفاظ على نسل الخيول العربية الأصيلة ونقل عدد منها إلى إنجلترا لتحسين سلالات الخيول الإنجليزية.
بعد مرور نحو عشر سنوات على زواجهما، قاما بأول رحلة إلى الشرق بهدف شراء بعض الخيول الأصيلة والتي تعرف في الغرب حاليا بـ “خيول الحرب البدوية”.
بدأت الرحلة بحراً من بريطانيا أواخر عام 1789. استقل الزوجان الباخرة من مرسيليا في فرنسا، وبعد أسبوعين وصلا إلى ميناء الاسكندرونة على البحر الأبيض المتوسط ( حاليا محافظة هاتاي في تركيا بعد ضم لواء الاسكندرون عام 1937). ومن هناك سارا براً في قافلة كبيرة مع مرافقين إلى مدينة حلب مروراً بجبل الأكراد ( منطقة عفرين حاليا) ومنطقة جبل سمعان.
تقول آن في مقدمة كتابها “القبائل البدوية في حوض الفرات” (480 صفحة وصدر عام 1879) الذي وثقت فيه رحلتهما الأولى إلى الشرق “سبق أن زرنا بعض الدول الناطقة بالعربية مثل مصر، ونعرف اللغة العربية بعضا ما، ولدينا فكرة عن الحياة والأخلاق البدوية، تحدونا رغبة أكبر في زيادة معرفتنا بهذه الجوانب، عبر القيام برحلة أطول من الرحلات السابقة. ومن الطبيعي أن نقوم برحلة إلى وادي الفرات وبلاد الرافدين”
أما الرحلة الثانية فامتدت بين عامي 1878 و1879، انطلاقاً من بيروت مروراً بنجد في الجزيرة العربية ثم اتجها شمالاً إلى ميناء عبادان في إيران على الخليج، ووثقت هذه الرحلة في كتاب يحمل عنوان “رحلة إلى نجد” وصدر عام 1881 في لندن ويقع في 332 صفحة.
منبع الخيول الأصيلة
أمضت آن خلال الرحلة الثانية فترة طويلة في عاصمة إمارة آل الرشيد حائل. ووصل إعجاب الزوجين بالحياة في الإمارة إلى أن يعرض ويلفريد على أمير آل الرشيد تولي مهمة تمثيله في القارة الأوروبية. يذكر أن ويلفريد يعد ثائراً وكان أول إنجليزي دخل السجن عندما أعلن عن تأييده علناً استقلال إيرلندا الشمالية.
أما آن التي كانت مغرمة بالخيول العربية، فتتحدث بإسهاب عن تلك الخيول التي كان الأمير يملكها وعن السعادة التي تنتابها عند ركوب بعض منها أثناء رحلات الصيد التي كانت تقوم بها برفقة الأمير. كما تتحدث عن مميزات الخيول العربية في الحرب وسلوكها وطباعها أثناء المعارك.
يذكر أن إمارة آل رشيد حينها كانت تشمل مساحات كبيرة من شمالي السعودية وجنوبي العراق وصولاً إلى أطراف العاصمة السورية دمشق.
وادي الفرات
خلال الرحلة الأولى، سافرت آن بلانت برفقة زوجها إنطلاقا من حلب نحو الشرق وصولاً إلى نهر الفرات، وكان الهدف هو اللحاق بعشيرة عنزة الكبيرة قبل رحيلها إلى نجد في شمالي الجزيرة العربية.
وبفضل الذكاء الذي كانت تتمتع به و كسبها ثقة البدو، تمكنت آن من شراء أول فرس عربية أصيلة في يناير/كانون الثاني عام 1878، واسمها “دجانية”. كانت دجانية ضمن أول مجموعة من الخيول عند افتتاحها مع زوجها مزرعة خاصة بتربية الخيول العربية في بريطانيا تحمل اسم “كرابيت بارك” الواقعة جنوب لندن أواسط عام 1878.
كما اشترت الحصان “قارس” الذي كان مصاباً بطلقتين خلال المعركة، فتخلى عنه فارسه بسبب إنهاكه وإصابته البالغة، ورغم ذلك لم يترك قارس فارسه وتبعه إلى مدينة حلب رغم إصابته. وبعدها بأشهر قليلة وقعت عين آن عليه فأسرها بجماله وطباعه، فاشترته وانتهى به المطاف في مزرعتها في بريطانيا.
أثبت الحصان خلال الأعوام التالية جدارته في ميادين السباق، وبيع إلى استراليا عام 1885.
كما اشترى القنصل الإنجليزي في مدينة حلب، الفرس النجدية “شريفة” التي وصلت إلى مدينة حلب وهي في التاسعة عشرة من العمر، إذ أهداها أمير الرياض سعود ابن سعود إلى حاكم مكة التركي تقي الدين باشا. وأهداها الأخير بدوره إلى كبير علماء الدين في حلب فباعها ابنه الى القنصل الذي اشتراها لصالح آن التي نقلتها إلى مزرعة كرابيت، فولدت المهر “نفيسة” التي حافظت على نسل أمها وانتقل هذا النسل إلى مختلف أنحاء العالم.
من الشام إلى اسطبلات الملك
حب وولع آن بالخيول العربية دفعها إلى إقامة مزرعة خاصة بها في مصر، خاصة بعد أن تمكنت من الحصول على عدد من الخيول التي كانت تملكها الأسرة المالكة في مصر.
فأقامت عام 1882 في الشيخ عبيد قرب القاهرة (جنوب محطة قطار عزبة النخل حالياً) مزرعة كبيرة على ضفاف النيل وجلبت أحد مربي الخيول من نجد إلى هناك للإشراف على تربية الخيول. وكان الفرس “مسعود” الذي اشترته من علي باشا في مصر أحد أهم مقتنيات مزرعتها في انجلترا
وقد وصف أحد أصدقاء آن، المزرعة عام 1895 قائلاً: “على مساحة تتجاوز 40 فداناً، تنتشر أشجار البرتقال والزيتون والمشمش والورود تحت ظلال أشجار النخيل العملاقة. تعيش قبيلة صغيرة من البدو في خيامها داخل المزرعة وكأنها في بيئتها الأصلية، يتولون مهمة تربية الخيول والعناية بالمهر”.
وجدت البارونة آن الراحة والهدوء في مزرعتها المترامية الأطراف. وكانت تمضي وقتاً طويلاً برفقة البدوي “مطلق” الذي كان يشرف على تربية الخيول وكانت تصفه بالشيخ، ظل مطلق مرافقاً لها يعمل في المزرعة حتى آخر يوم في حياته، إذ توفي قبل عام من وفاة آن.
أقامت آن علاقة ممتازة مع العائلة المالكة في مصر واشترت الحصان “مسعود” من علي باشا محمد شريف، ابن أخت محمد علي باشا. كان والد علي باشا حاكم مصر على بلاد الشام وكان مولعا بالخيول العربية فجلب معه إلى مصر عدداً كبيراً منها. وسار ابنه علي على خطاه، وارثاً عن أبيه هذا الولع فأقام مزرعة كبيرة لتربية الخيول العربية. وكان يصدّر الكثير منها إلى الدول الأوروبية.
يذكر أن علي باشا درس مع أبناء العائلة المالكة في فرنسا وتولى مناصب كبيرة في الدولة.
كما ورث علي باشا عدداً كبيراً من الخيول الأصيلة التي كان يملكها حفيد محمد علي باشا، عباس الأول، الذي قتل عام 1854 فورث نجله ابراهيم إلهامي باشا الخيول عن أبيه فتخلص من غالبيتها، إذ لم يكن من عشاق الخيل. ولدى وفاة ابراهيم عام 1860 بيعت مزرعة الخيول بالمزاد العلني بسبب الديون المتراكمة عليها. فاشترى علي باشا 30 حصاناً من تلك التي كان يملكها عباس الأول، وبحلول عام 1873، بلغ عدد الخيول في مزرعة علي باشا نحو 400.
وانتهى عدد منها في اسطبلات الملك فؤاد، إذ أعار ابن علي باشا عدداً منها للملك الذي احتفظ بها ولم يعدها وقد ضاع أثر هذه المجموعة.
وفي أواسط سبعينيات القرن التاسع عشر، انتشرت في مصر حمى الخيل الأفريقية، فقضت على الآلاف منها، بينها عدد كبير من الخيول الأصيلة. لكن علي باشا أنقذ خيوله إذ نقلها إلى شمالي مصر فنجت من الموت المحتم.
واجه علي باشا مشاكل صحية ومالية في أواخر أيامه فتراجع عدد الخيول في المزرعة بسبب سوء الإدارة. وفي عام 1880، تعرفت آن وزوجها على علي باشا، فاشتريا منه الحصان “مسعود” وعدداً آخر من الخيول وتم نقلها إلى مزرعتهما في كرابيت عام 1898.
مات علي باشا في عام 1897، وبعد وفاته بشهر، عرضت الخيول التي كان يمتلكها في مزاد علني فاشترت آن عدداً من أفضل الخيول ونقلتهم إلى مزرعتها في الشيخ عبيد وبعدها إلى مزرعتها في إنجلترا.
انفصلت آن عن زوجها عام 1906، بسبب مغامرات زوجها العاطفية فتقاسما المزرعة. وتركت آن حصتها من الخيول والمزرعة برعاية ابنتها الوحيدة جوديت وانتقلت هي إلى مزرعتها في شيخ عبيد في مصر وظلت هناك حتى آخر يوم في حياتها ولم تعد إلى بريطانيا.
دُفنت آن في مقبرة الكاثوليك في العباسية بالقاهرة. ويقوم بخدمة القبر وصيانته أحد هواة الخيول العربية في استراليا حتى الوقت الراهن.
وقد نشر أحد هواة تربية الخيول العربية صورة للقبر واللوحة الحجرية المكتوبة فوق القبر قبل عامين.
المصدر : جريدة أحوال بريطانيا