سياسة

“مقتل بائع الكتب” رحلة عراقية

في الفترة الأخيرة أوغلت السردية العراقية في استكشاف الذات العراقية التي كانت مغلقًا عليها خاصة قبل 2003. ولكن اصطدمت هذه الذات بانهيارات الأحلام وواقع ما بعد 2003، حيث صار العنف المجاني هو اليوميّ والمعيش. وهذا ما نستكشفه في رواية سعد محمد رحيم “مقتل بائع الكتب” التي بلغت القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) 2016.

رواية العراقي سعد محمد رحيم “مقتل بائع الكتب”، تُقدِّم مآسي عراق ما بعد وما قبل، عبر شخصية إشكالية يجعل منها الراوي شخصية نمطية، شخصية بائع الكتب الماركسي الذي لم ينتسب إلى حزب أو حركة، والذي كانت حياته مغامرة كبيرة، انتهت نهاية صادمة بمقتله بمسدس كاتم صوت في الطريق العام.

وجوه متعددة

يجعل الكاتب من حدث مقتل بائع الكتب محورًا للرواية، الصادرة عن دار سطور، ويدخل بنا في بناء بوليسي حيث تجميع الأدلة والدوافع وفحصها للوصول إلى حقيقة الشخصية ومن ثمّ التعرف على هوية القاتل ودوافع ارتكابه للجريمة.

تبدأ رحلة البحث عن المصادر بعد اتصال هاتفي من شخص سبعيني هرم بالصحافي ماجد البغدادي الذي يعمل في جريدة “ضدّ”، ويطلب منه عبر الهاتف ودون لقاء مباشر، أن يُؤلِّف كتابًا عن شخصية بائع الكتب محمود المرزوقي، الذي تمّ اغتياله منذ أشهر قليلة في مدينة بعقوبة، على أن يتكفل صاحب العرض بمصاريف طباعته في بيروت وأن يعطي للصحافي ما يقابل عمله في الجريدة لمدة سنتين.

كان الغرض من وراء كتابة الكتاب على حدّ قول صاحب العرض “أن حياته دراما تُلخص تاريخًا عريضًا لجيلنا”. بعد موافقة ماجد على العرض كان الشيخ السبعيني قد وَفى بنصف الاتفاق ووضع نصف ما اتفق عليه في حسابه البنكي. وعلى الفور أسرع إلى صديقه مصطفى كريم كي يكون بداية العقد الذي سيبدأ منه مهمته، وَيُدبِّرُ له إقامة في بعقوبة مع صديق له سافر ولداه إلى سوريا؛ الأستاذ حيدر مُدَرِّس الفن المتقاعد. ثمّ قدَّم له قائمة بأربعة أشخاص سيقدمون له مادّة مُتنوّعة عن المرزوقي وهم: فِراس سليمان ابن أخت المرزوقي، وهيمن قره داغي أحد أدباء المدينة وهو كردي، وسامي الرفاعي وهو رسام يعيش في هولندا، والشخصية الرابعة هي رباب صديقة محمود المرزوقي المُقرَّبة لكنْ لها أخ متطرف.

مع حضور الشخصيات الأربع وتقديمها له مادة أرشيفية كانت بمثابة وجوه مُتعدِّدَة لشخصية بائع الكتب تجمع بين المثقف والماركسي والدنجوان والفنان، تأتي شخصية جديدة خامسة وهي شخصية أثير البغدادي الذي أرسل رسالة من اليمن للصحافي، ليُقدِّم له صورة أخرى تُعضِّدُ من هذه الوجوه المتعدّدة، كاشفًا عن جانب جديد من شخصية المرزوقي وأسباب هروبه وانسحابه من كافة المسؤوليات، كما حدث في انتحار الفلاحة. فهو أشبه بشخصية مهزومة دومًا هاربة، كما جاء في مضمون الرِّسالة. ثم في حركة سردية سريعة يعود السّرد إلى “الفلاش باك”، وينفتح على تاريخ منتصف ديسمبر 2009، في شارع الأطباء في مركز مدينة بعقوبة، حيث يسجل لنا الراوي مشهد اغتيال المرزوقي.

لا تلعب الرواية على الحكاية التي في الأصل قيمتها ليست في الشخص المروي عنه، بقدر ما صحبها من رحلة بحث عن التاريخ المجهول لهذا المروي عنه، حفرت في تاريخ العراق الماضي والقريب، كل هذا كان مصحوبًا بتقنيات لَعِبَ عليها الراوي/ المؤلِّف الذي يظهر داخل العمل في أكثر من موضع باسمه ووظيفته، حتى وإن توازى معه الراوي الصحافي ماجد بغدادي، إلا أن الكاتب أراد أن يُوهم بانفصال الشخصيتيْن عن بعضهما البعض بحضوره الشخصي داخل الرواية. فيحكي عمّا مر به العراق من انقلابات واعتقالات في صفوف الماركسيين وما تعرضوا له من اعتقال ومطاردات وموت كما في حكاية قطار الموت التي دبَّرَها النِّظام لهم للخلاص مِن جميع المعتقلين. وَقائع دَامية يرصدها الكاتب عبر استحضار سيرة المرزوقي الماركسي وتقلباته. يرصد من خلالها المتغيرات التي حلّت بالعراق، كما يكشف عن صراعات الحكم، بعد الانقلاب وإعدام عبدالكريم قاسم. فيدخل المرزوقي السجن بتهمة الانتماء إلى اليسار ويخرج بعد خمس سنوات وقد فقد إيمانه الكُلِّي بالحب، ولكن ما إن يذهب إلى براغ حتى يتجدّد عهده بالحب مع فتاة روسية بيضاء هي ناتاشيا التي بعد اعتقاله تكون خسارته الكبرى.

يعتمد السّرد على الطابع السينمائي، حيث التقطيع المشهدي للأحداث، مع حضور في الكثير منها للزمان والمكان، وهذه السِّمَة رمَّمَت الكثير من أجزاء النص الناقصة، كما سعى هو إلى ترميم حكاية المرزوقي عبر لقاءاته بشهود الحكاية، وقراءة الكثير من الملفات سواء كانت يوميات أو مذكرات أو رسائل وغيرها.

وبهذا استطاع المؤلف أن يقدم حكاية متكاملة عن شخصية بدت مع بداية السرد مجهولة باستثناء حادثة الاغتيال التي تعرضت لها. ثمة تقنية أخرى تتمثّل في الإيجاز ثم التفصيل، فلقاءات مصطفى كريم بالراوي/ ماجد البغدادي تخللها سرد لتاريخ موجز عن شخصية محمود المرزوقي، ثم بعد ذلك تأتي التفاصيل من قبل الشخصيات الأربع التي أمدته بمحفزات لإكمال بنية السرد.

سعد محمد رحيم: الواقع العراقي يتلخص في ما تحكيه الشخصيات عن بائع الكتب المجهول

هزيمة اليسار

قدمت كل شخصية من الشخصيات الأربع جانبًا مهمًّا من جوانب شخصية المرزوقي فنرى صورا متعدِّدة لشخصية واحدة تجمع بين المثقف الإشكالي رغم التزامه بمفهوم المثقف السارتري، اللافت أن كل شخصية من هذه الشخصيات تحوي في داخلها جانبًا موازيًا لما في شخصية محمود المرزوقي. فالأديب القاص هيمن قره داغي، الذي يصفه الراوي بأنه زير نساء، عندما يتحدث عن المرزوقي يركز على هذه الصفة فيه، وحين تمّت دعوته إلى اتّحاد الكُتَّاب ذات مرة في أمسية حكى عن علاقته بالنساء خلال تجربته الأوروبية؛ ولا يقف عند النساء بل يتحدث عن المدن الآثمة والنساء الآثمات.

ومع فراس سليمان طالب الدراسات العليا ابن أخت المرزوقي يعثر الصحافي على دفتر يوميات الخراب، وهي سيرة موازية لسقوط بغداد في أبريل 2003 وما حل بها من خراب. يدوِّنُ المرزوقي تاريخ المأساة منذ لحظة السقوط 9 أبريل 2003 في ساحة الفردوس. تأخذ هذه اليوميات ترتيبًا زمنيا يتوافق مع ما حدث، وهي عبارة عن مشاهد سريعة عمّا حدث وأثر ذلك على الشعب العراقي، حيث خلت الشوارع من رجال الأمن وانتشر السَّلْب والنَّهْب، وبطالة الشعب العراقي، وغيرها من صور تظهر بشاعة ما حدث.

تتنوّع اللغة بين لغة وصفية مقتضبة لا تُسهب، وأخرى حوارية تتخلَّلها أساليب حداثية حيث تدخل لغة الخطاب التداولي عبر منصات التواصل الاجتماعي إلى الخطاب الروائي، بشكلها الساخر ودلالتها التوصيلية.

لم تكن أهمية شخصية محمود المرزوقي أنها شاهدة على انكسارات العراق وهزيمته، أو حتى خسائره هو المتعددة بين خسائر في الحب أو في الوطن، وغيرهما، وإنما كانت صورة بانورامية كشفت عن هزيمة الاشتراكية، وأكلها لأبنائها؛ فناتاشا سُجنت وعذبت حتى الموت بسبب سخرية أبيها، المرزوقي نفسه سُجن بعد الانقلاب واقتيد إلى السجن، وفي أوروبا اقتيد إلى التحقيق ثم طُرِدَ بسبب علاقته بناتاشا. أندريه صديقه الفرنسي يرى أن العالم البرجوازي فاسد وقد طَلَّق اليسار بعد ثورة الشباب 1968، وبالمثل ما تعرَّض له مُحمد المنياوي الفنان المصري الذي التقاه في باريس. وكأن الرواية تسجل ما لحق باليسار من اعتداءات وملاحقات.

إغلاق