سياسة
يوميات عراقي من بيروت إلى طهران إلى موسكو الستينات
يستهل الكاتب العراقي عادل حبة يومياته “مذكرات إيرانية” الصادرة حديثاً عن دار المتوسط في ميلانو، ودار السويدي في أبوظبي، ضمن سلسلة يوميات عربية التي يشرف عليها مركز “ارتياد الآفاق للأدب الجغرافي”، بإقرار واضح يقول فيه “في صباي لم تكن لدي إلا صور مبهمة عن شعب يجاورنا، ويجمعنا معه الكثير من
التاريخ والثقافة المشتركة، وأعني به الشعب الإيراني. إن كل انطباعاتنا عن هذا الشعب الجار تبقى في إطار مظهر الزوار الإيرانيين، الذين كانوا يفدون إلى العراق لزيارة العتبات المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمين وسامراء”.
البعد التاريخي
قراءة هذا التمهيد تضع القارئ في جاهزية تامة للتعامل مع عالَمين منفصِلَين كليًّا رغم القرب الجغرافي، فكل عالم مبني في أساسه على تصوُّرات مُسبَقة عن العالم الآخر، يحيل هنا الكاتب اللومَ على المناهج المدرسية التي اشتغلت عن سبق إصرار لتضخيم نقاط الاختلاف وتجاوزت بسوء نية من “الشعبوية” مبدعين من كلا الحضارتَين، فنراه يقدِّمُ كشف حساب إبداعي لأولئكَ الذين قدِموا من أصول إيرانية وأثروا الحضارة العربية أو الإسلامية عموماً، أمثال حافظ الشيرازي، سعدي الشيرازي، عمر الخيام، مولوي، الفردوسي، بهار ونيما يوشيج، سياوش كسرائي، أحمد شاملو، أبوالحسن زرياب الفارسي، وغيرهم الكثير.
يعطي الكاتب في سرده بعداً تاريخيّا فنراه يسرد أحداثاً وقعَت، لكنه لا يلبس عباءة المؤرِّخ فهو يرويها بما يخدم مسار رحلته، وإعادة بناء التصورات حول تلك البلاد، فيبدأ مع تأميم النفط من قِبَل محمد مصدق رئيس وزراء إيران في بداية الخمسينات من القرن الماضي، والإطاحة برضا بهلوي شاه على يد الغزو البريطاني الأميركي السوفييتي لطهران.
تلتزم “مذكرات إيرانية” بالدقة بوصفها بناء دراميّا يحتوي كل ما رآه الراوي في رحلته التي بدأت عتبتها من بيروت إلى موسكو قصد الدراسة، فالحامل الموضوعي للسرد هو الانتماء السياسي للحزب الشيوعي العراقي، والتأثيرات السياسية التي أصابت هذا الحزب عقب الإطاحة بالملكية، ثم اندلاع الاحتجاجات العمالية في العاصمة العراقية عشية سفر الكاتب إلى الاتحاد السوفييتي عبر براك من بيروت بعد أن مكث فيها شهرين انتظاراً لتأشيرة السفر.
عامان ونصف العام في موسكو، هي المدة التي يدخل فيها عادل حبة تفاصيل الحكايات المتشعِّبة مستعيناً بذاكرة حاضرة عن أشخاص بأسمائهم، بعضهم رحلوا عن هذه الحياة، يقول” كانت تلك الأيام تمر علينا والقلق يساورنا جميعاً، بسبب تدهور ملحوظ في الأوضاع السياسية في الوطن، بما يُنذِر بمأساة حقيقية للبلاد، وفعلاً حصلت الكارثة في 8 شباط (فبراير) عام 1963”، فالإطاحة بعبدالكريم قاسم كانت نقطة انطلاق لكوادر الحزب الشيوعي العراقي للبدء بإعادة بناء الحزب وتضميد جراحه على حد وصف حبة، ومعَ إنهاء دراسته صيف عام 1963 وقع الاختيار عليه رفقة اثنين آخرين للتوجه نحو العاصمة الإيرانية.
“وصلتُ إلى طهران، وللمرة الأولى في حياتي، في أواخر ديسمبر عام 1963، وهكذا بدأت مرحلة جديدة من التعرف على إيران وشعبها”، بهذه الكلمات يبدأ عادل حبة خطواته الأولى في إيران بعد وصوله إليها قادماً من موسكو عبر بيروت بتعلم الفارسية التي يضع خطوطاً عريضة للراغبين في تعلِّمها، فهي تطابق في 40 بالمئة منها المفردات العربية ويبقى الاختلاف في التركيب النحوي والقواعدي، أما المهمة الثانية التي واجهته فتقوم على تنظيم الصلة مع العراقيين الذين فروا بأعداد كبيرة إلى إيران هرباً من بطش انقلابيي شباط (فبراير)، والعمل على تهريب البعض منهم إلى الاتحاد السوفييتي عبر الحدود الشمالية لإيران خاصة ممَّن كان مصاباً في أثناء التعذيب أو مريضاً.
المذكرات تلتزم بالدقة بوصفها بناء دراميا يحتوي كل ما رآه الراوي في رحلته التي بدأت من بيروت إلى موسكو قصد الدراسة
تبرز هنا في مذكرات حبة عن تلك الفترة العلاقة الوطيدة مع حزب تودة الإيراني، تسير هنا الأحداث ضمن منطقية سرديات العمل السري وتفصيلاته وصولاً إلى تنامي التيار السياسي الديني وحدوث الانقلاب العسكري في طهران وتأثيرات ذلك على كوادر الحزب الشيوعي العراقي، قبل أن تبدأ مرحلة البحث عن ملجأ في ظل التقييد المطلق والملاحقات الأمنية، ويروي الكاتب بالكثير من التفاصيل الزمانية والمكانية عن أحداث وقعت له وكان شاهداً عليها في تلك الفترة.
البحث عن ملجأ
تعقيدات الواقع الطارئ حينها في إيران تفرض ظلالها على العمل السياسي السري للحزب الشيوعي وتحالفه مع حزب تودة الذي بات مخترقاً حينها من الأمن الإيراني، وهذا ما اقتضى بحسب الكاتب التعجيل بسحب الكوادر العراقية نحو الجنوب العراقي أو إيجاد منفذ خروج لهم نحو دول الاتحاد السوفييتي. هكذا بدأت مرحلة جديدة من حياة الراوي متنقلاً بين مدن إيران حتى تم اعتقاله في الأهواز، ليتعرض لأنواع شتى من التعذيب الجسدي والنفسي، قبل أن تنتهي المذكرات على الاحتمالات المتعددة بعد أن خاض الكاتب نقاشاً سياسياً القوةُ فيه للسجان الإيراني.
مذكرات إيرانية تلجأ إلى السرد الدراماتيكي مفتوح الدوائر، والمسنود بروايات تاريخية وتوصيفات جغرافية للأمكنة والمدن الإيرانية، فضلاً عن استجلاب أشخاص من التاريخ الفارسي والحديث عنها ضمن دائرة الحدث القائم على عمودَين أساسيين، الأول عراقي والثاني إيراني، وكلٌّ منهما يرسم اتجاه مساره وفقاً لعلاقته بالكاتب باعتباره مركز الحدث والسرد دائماً.