سياسة
روائيان عربيان يتخيلان حياة أخرى في العالم الآخر
عندما يستحضر الكاتب مكانا يعرفه ضمن بنية نص أدبي، قصصي، روائي، شعري، مسرحي، فإنه يفترض في هذا المكان ما يعرفه عنه إجمالا، وقد يلجأ إلى تناول مفاصل هامة من تاريخ هذا المكان وجغرافيته، لكن لا يستطيع الكاتب أن يبني تصورات جغرافية منافية للواقع، لأن هذه الجغرافية متأصلة في ذهن القارئ وأي تغيير فيها يعتبره المتلقي خيانة لا يقبل بها أو خديعة تقلل من شأن ذكائه، كأن يذكر الأديب مثلاً في معرض حديثه عن بيروت التي تمثِّل فضاء جغرافياً للقصة، بأن البطل حدثَ معه ما يلي على ضفاف نهر النيل في العاصمة اللبنانية.
هذا بالنسبة إلى الجغرافية الحقيقية التي يستحضرها الأديب في فضاء النص الإبداعي، ماذا إذا كان هذا المكان لا يقترب من إحساس المتلقي أو معارفه؟ كأن يخلق الكاتب مدينة هجينة خليطة يهيِّئ المتلقي لقبول كل ما يرد فيها.
في هذه الحالة يمكن قبول أن يكون برج إيفل إلى جانب الأهرامات وبالقرب منهما نهر الأمازون، الشخصيات في هذا الفضاء الهجين ليس لها هوية ثابتة فهي تستمد هويتها وثقافتها من المكان أيضاً، جغرافية الفكر بطبيعة الحال تستوحي نمط اتجاهاتها المتنوعة من تشكيل الفضاء حولها، لهذا نرى أن اللهجات وردود الأفعال على المواقف تختلف في الواقع من سكان البادية إلى القاطنين على سواحل البحر أو في قمم الجبال.
تلك الروايات التي يكون فضاؤها حياة ما بعد الحياة، أو حياة ما بعد الموت، إنها ظروف مُلتَبِسة في الجغرافية والسلوك معاً
في الحديث عن عوالم غريبة كليًّا عن المتلقي، إشارة إلى تلك الروايات التي يكون فضاؤها حياة ما بعد الحياة، أو حياة ما بعد الموت، إنها ظروف مُلتَبِسة في الجغرافية والسلوك معاً، سأضربُ هنا مثالاً خاصاً عن مسرحية نفَّذتُها على مسرح بلجيكي عن اثنين يلتقيان بعد موت كل منهما، فيظهر أثر الخصومة في الحياة بينهما نتيجة الخلاف على أرض في الحياة، ردود الأفعال من المشرفين على العمل كانت بسؤال جوهري: هل الهموم التي يعيشها الإنسان في الحياة الأولى تنتقل معه إلى العالم الآخر؟
أو هل ظروف العالم الآخر من حيث الوقت والمكان متطابقة مع ما نعيشه اليوم؟
تفاصيل هذا الطرح متشعبة وعديدة، ما دفعني إلى البحث في آلية تقديم الكُتَّاب العرب لفكرة الحياة ما بعد الموت من خِلال مثالَين اثنين لكاتب أردني وآخر عراقي.
قدَّم الروائي الأردني زياد محافظة عملاً عن حياة ما بعد الحياة، حملَ عنوان “نزلاء العتمة”، وهو عمل فائز بجائزة أفضل رواية عربية في دورة معرض الشارقة الدولي للكتاب في عام 2015 في الإمارات العربية المتحدة.
في البداية معرفة ظروف كتابة هذا العمل أو نضوجه تمنح المتلقي قدرة على تفهُّم العبارة التي تصدَّرت النص بأن هذه الرواية تقتصُّ من قارئها بطريقة ما، فزياد محافظة أنهى النص بينما كانت أمه تخطو خطواتها الأخيرة في الحياة تحت أجهزة الإنعاش في المستشفى، ما ألقى بظلاله على الجو العام للعمل.
في جغرافيته العامة يبدأ النص السردي بلحظة انهيال التراب والدخول في باب يقود إلى عالم مجهول بالنسبة إلى الزائر لكنه ما يلبث أن يتأقلم مع هذه الأحوال، إنه عالم يمثِّل في جوهره نسخة طبق الأصل أو مزورة عن العالم الذي نعيشه، ينتقل الراحل إليه في مراحل تشبه إلى حد كبير مراحل النضوج في الحياة الطبيعية مع اختلاف تطور العمر في الأخيرة وثباته عند النقطة صفر في الحالة الأولى.
المتلقي العربي يتقبل أي نص حول العالم الآخر انطلاقا من الثبات الديني بينما الأوروبي يتقبله بتحرر ديني
أبطال زياد محافظة في “نزلاء العتمة” يحملون همومهم ومشاكلهم الأولى حتى اتجاهاتهم السياسية ومهنَهم التي اشتغلوا بها في الرحلة نحو الموت أو العالم الآخر، فضاءات الجغرافية في العالم تحت الأرض أو عالم المقابر تطابق ظروف الجغرافية وتقطيعاتها في العالم الحقيقي، فهناك الجبل والوادي وتقسيم البيوت والطبقات الاجتماعية.
العمل الآخر الذي وقع في دائرة البحث هو “مياه متصحرة” الذي وصل إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية “البوكر”، للمسرحي والكاتب العراقي حازم كمال الدين، هذا العمَل تمت ترجمته إلى اللغة الهولندية مؤخرا، ومِن اللافت القول إنَّ تلقي النص عند الأوروبي كان مختلفاً عن المتلقي العربي، لعدة أسباب أبرزها أنَّ المتلقي العربي ينطلق في تقبُّلِه لأي نص يصل في فضاءاتِه إلى العالم الآخر من الثبات الديني بينما الأوروبي يُقبِل على أي نص من تحرر ديني غير منضبِط بقواعد النصوص المقدَّسة، أو هناك فصل في ذهنية التلقي بين ما قدّمته الأديان من روايات تصف العالم الآخر وبين ما يفعله الخيال الأدبي عن هذه التصورات.
كتَب حازم كمال الدين هذا النص تحت ضغط موت صديقه الفنان حمادي الهاشمي وحيداً في شقَّتِه في مدينة خينت البلجيكية، حيث تم اكتشاف رحيله بعد ثلاثة أيام من الموت، ما جعلَ الكاتب يتخيَل نفسه في هذا المصير، ويبدأ بمحاكمة متخيَّلة لرحيله المنتظر حيث تختلف الدائرة المحيطة به حول طريقة دفنه، البطل الميت عند حازم كمال الدين منسجم مع الروايات الدينية، فهو يسمع ويشعر ويعلم ما يجري حوله، لكنَّه غير قادر على الحركة أو الكلام، يعيش الرواية محاولاً البحث عن طريقة موته من خلال ما يقوله الآخرون.
هو نفسه منشغل بسبب رحيله غير مكترث بعالم ما بعد الحياة، ولا تعنيه تفاصيله أبداً أو مكوناته، يختصر حازم كمال الدين العالم الآخر بمجموعة من الأنفاق المتعرجة والحلزونية ليصل إلى الصمت والسكون المطلق مُعتبِراً إياه هو المصير المحتوم النهائي.
إن أي بحث في هذه العوالم لا بد أن ينطلق وفقَ مستويين اثنين عبر تجربَتين متشابهَتين في الظروف، مختلفتين بعقلية التلقي، أتحدث هنا عن رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، والكوميديا الإلهية لدانتي، بينما تبقى القدرة على الطرح الجديد والمختلف عن العالم الآخر مرتبطة حقيقة بجملة من التصورات التي يحملها الكاتب أساساً في تكوينه الفكري، وتتصل بشكل مباشر بالزمن الذي يعيشه المبدع.