جمعيات ومنظمات
غزوة السفيرة الأميركيّة في لبنان: تضييق الخناق
للحكومة الأميركية تاريخ طويل من التدخّلات التفصيلية في شؤون لبنان. لكن سيُقال إنّ لدول أخرى تدخلاتٍ في شؤون لبنان، وهذا صحيح. كان السفير المصري في لبنان في عهد عبد الناصر، يتمتّع بنفوذ كبير غير أنّ الحكومة المصريّة لم تكن تشتري نفوذها بالمال والتهديد، كما تفعل أميركا اليوم: كانت الجماهير تتبع، عفويّاً، السياسات الناصريّة، وكان المرشّحون لللانتخابات النيابيّة وحتى البلدية (وفي مناطق مختلفة من لبنان)، ينفقون المال على ملصقات ولافتات تحمل صور واسم عبد الناصر. وكان نوّاب بيروت يتسابقون لزيارة القاهرة قبيل الانتخابات النيابيّة، كي ينشروا صوراً طازجة لهم مع عبد الناصر (كانت السفارة المصريّة تقدّم معونات من الورق لبعض الصحف الموالية للسياسة المصريّة، لكن هذا نذر يسير ممّا كانت سفارات دول الغرب والخليج العربي وإيران الشاهنشاهية تنفقه في الدعاية آنذاك). أما النظام السوري، فقد حصل على نفوذٍ هائل له في لبنان من خلال فرض سيطرته العسكريّة والمخابراتيّة بعد عام ١٩٧٦، وتدخّل جيشه. الفارق بين النفوذ الأميركي ونفوذ دول أخرى، أنّ النفوذ الأميركي كان ثابتاً منذ الحرب العالميّة الثانيّة. لم يصعد أو يهبط مثل نفوذ دول أخرى. النفوذ الأميركي في لبنان بقي ثابتاً، وتعايشَ حتى مع سنوات سيطرة منظمّة التحرير الفلسطينيّة والحركة الوطنيّة التي كان له فيها حلفاء (في صيف عام ١٩٨٢، توصّل مروان حمادة إلى اتفاق مع السفارة الأميركيّة في بيروت لإرسال سيّارة رسميّة لنقل زعيم التقدميّة الاشتراكيّة من قصره في المختاره إلى بيروت). وكان ياسر عرفات يسخّر قوّات منظمّة التحرير لحماية المصالح الأميركيّة ولمنع التعرّض لها، أملاً منه بمبادرة أميركيّة سياسيّة نحو منظّمة التحرير.
تعايش النفوذ الأميركي مع مرحلة سيطرة النظام السوري، لأنّ «اتفاق الطائف» تمَّ برعاية سعوديّة ــ أميركيّة ــ سوريّة، وكان النظام السوري على علاقة حسنة مع الإدارة الأميركيّة عندما شاركت قواته في الحرب الأميركيّة على العراق، لإسباغ شرعيّة إسلاميّة وعربيّة مزيّفة على الحرب الأميركيّة. كذلك، كان اختيار شخص الرئيس اللبناني مدار بحث دائم بين النظام السوري والحكومة الأميركيّة. لكنّ النفوذ الأميركي لم يخفت في لبنان، خصوصاً أنّ قطاعات كبيرة في الدولة والمجتمع بقيت على ولائها للمصالح الأميركيّة: الجيش على زمن لحّود لم يمنع الدورات للضباط في الولايات المتحدة، بالرغم من فرضه عقيدة وطنية مقاوِمة للجيش (لم تتدفّق المساعدات العسكريّة للجيش إلّا بعد عهد لحّود، لأنّ الذي خلفه في قيادة الجيش تملّص من العقيدة الوطنيّة المقاوِمة). ونما النفوذ الأميركي في الجيش بعد رحيل لحّود، وبصورة مطردة، إلى درجة أنّ الجيش اللبناني، اليوم، بقيادة جوزيف عون لا يشبه إلا الجيش الانعزالي في زمن ما قبل الحرب الأهليّة: بالكاد يذكر جوزيف عون في عيد التحرير الأبطال (من خارج الجيش) الذين دافعوا عن لبنان. وأجهزة الأمن في لبنان متعدّدة، وكلّها بدرجات متفاوتة، حافظت على أفضل العلاقات مع الإدارات الأميركيّة (التي كانت تمنح سيّارات «متطوّرة» لقادة الأجهزة) بالرغم من سيطرة النظام السوري (مَن قال إنّ اللبناني لا يستطيع أن يطيع أكثر من دولة واحدة في آن؟)، وكان النظام المالي والاقتصادي، بحكم وقوعه في يد رفيق الحريري، متحالفاً مع وزارة الخزانة الأميركيّة، التي تنفّذ مشيئة اللوبي الصهيوني في الإشراف على ماليّة دول الشرق الأوسط: اختيار حكّام المصارف المركزيّة في العالم العربي قرارٌ أميركي. طبعاً، بعد رحيل النظام السوري، سارعت الحكومة الأميركيّة إلى بسط نفوذها على كلّ المفاصل التي كانت خاضعة للنفوذ السوري. ويقولون إنّ إيران نافذة في لبنان: على أي قطاع في الدولة تسيطر إيران، وعلى أي قطاع في الدولة سيطرت إيران منذ عام ١٩٨٢؟ ليس لإيران نفوذ خارج نطاق حزب الله ومؤسساته.
وفي المجتمع، بحكم التمويل العلني (من خلال وكالة التنمية الأميركيّة ومؤسّسات لا حصرَ أو عدّ لها بأسماء تتغنّى بالديموقراطيّة وحب الطبيعة) والسرّي الذي لا نعلم بأمره، فإنّ المصالح الأميركيّة تسود، كما تسود في الإعلام الذي يعاني من شحّ في التمويل (سنعود إلى ذلك أدناه). والسريّة المصرفيّة ستبقى في لبنان، لأنّها جاءت بمشيئة الاستخبارات الغربيّة، وستبقى فيه بمشيئة الاستخبارات الأميركيّة. لن تسمح أميركا برفع السريّة المصرفيّة ــ والطريف أنّ المصارف اللبنانيّة ترفع السريّة المصرفيّة عن كلّ الحسابات بناء على طلبات وزارة الخزانة الأميركيّة. أي أنّ السريّة المصرفيّة لا تسري على الراعي الأميركي والإسرائيلي.
لم يأتِ على لبنان سفيرٌ أميركي يكرّر نشاط جيفري فيلتمان. يصحّ القول إنّه كان خير وريث لغازي كنعان. ليس أنّ السفراء الذين سبقوه افتقروا إلى النفوذ، لكنّ هذا كان مبادراً وسياسيّاً محنّكاً. تقرأ في «ويكليكس» كيف كان قادة ــ أو فرسان ــ ١٤ آذار، يتناقشون مع فيلتمان ويطلبون توجيهات في أصغر التفاصيل (تماماً كما كان بعض هؤلاء يلعبون هذا الدور مع غازي كنعان ورستم غزالة). فيلتمان كان العرّاب والمؤسّس الحقيقي لـ١٤ آذار. فيلتمان هو خليفة رفيق الحريري في التآمر بعد رحيل الأخير، خصوصاً أنّ خليفة الحريري في العائلة ترك الكرسي فارغاً بسبب غياب الموهبة والكفاءة والذكاء والقدرة والشخصيّة. وكان بعض قادة ١٤ آذار يستمرّون في التواصل وتلقّي النصح من فيلتمان، حتى بعد شغله منصباً رفيعاً في الأمم المتحدة (وكان جنبلاط يطير للقائه، طبعاً للبحث في المواضيع التي تهمّ جنبلاط وتلهمه مثل قضيّة فلسطين… وعقيدة بوش).
خلفاء فيلتمان لم يخفوا تدخّلهم في الشأن اللبناني، وكانوا مثله منفّذين لمشيئة اللوبي الصهيوني. لكنّ أحداً منهم لم يبرز في الدور. نورا كونللي زارت زحلة كي تلتقي مع نقولا فتّوش للتدخّل ــ الصفيق ــ في شأن الانتخابات البلديّة والنيابيّة. هذه من سمات التدخّلات الأميركيّة: إنها أكثر صفاقة واتساعاً وعمقاً من أيّ دور لسفراء آخرين، باستثناء السفير السعودي بعد موت رفيق الحريري. لكنّ السفارة الأميركيّة أكثر نفوذاً من النظام السوري في عزّ سطوته: النظام السوري كان يسيطر على الطبقة السياسيّة، وكان الحريري وبرّي يستعينان بالذراع الغليظة للنظام لتطويع وتدجين الاتحادات العمّالية التي شكّلت في التسعينيّات الفرصة الوطنيّة الوحيدة الجامعة لمناهضة الحريريّة. أمّا الدور الأميركي، فمتغلغل في كل قطاعات الدولة والمجتمع، ممّا يعطيه عمقاً لم يتمتّع به النظام السوري من قبل. والحكم الأميركي يتمتّع بالقدرة الماليّة (له ولطغاة الخليج) وهو يستخدم القدرة الماليّة للمعاقبة والمكافأة معاً.
لكنّ السفيرة الأميركيّة الجديدة أتت بمهمّة عاجلة وملحّة: الإطباق على لبنان وشنّ حملة دعائيّة خبيثة لم يسبق أن شهدها لبنان من قبل. كانت حملة فيلتمان في عام ٢٠٠٥، وما تلاها خلال سنوات عقيدة بوش، أمهر من حيث تزييف الأغراض والمقاصد والمخالب. السفيرة الجديدة تعمل في ظل إدارة دونالد ترامب، حيث التروّي والدبلوماسيّة الناعمة تُعتبر من المعوّقات ومن معالم الضعف المستنكَر. وإسرائيل منذ عام ٢٠٠٦ في معضلة لم تحلّها لها أيّ إدارة أميركيّة: أُطلقَت يد إسرائيل لثلاثة وثلاثين يوماً كاملة لتدمير لبنان كلّه، من أجل تدمير حزب الله و«طرده من لبنان» (كان نادر الحريري في حرب تمّوز يبشِّر بطرد الشيعة من الجنوب، بحسب شاهد على مكالمة هاتفيّة له). لكنّ إسرائيل فشلت، حتى في الهدف الأدنى: ألا وهو تدمير القدرة الصاروخيّة للحزب. وخرجت من الحرب مهزومة ذليلة، كما لم تُذلّ في تاريخها غير الطويل (وإن كان طويلاً عندما يقاس بمعاناة ضحاياها). منذ حرب تمّوز، وإسرائيل وراعيتها تبحثان عن وسائل وطرق لمحاربة حزب الله والقضاء عليه. مؤامرات لا عدّ لها ولا حصرَ. من تأهيل ميليشيات حريريّة مموّلة من النظام السعودي (بإيعاز أميركي) لجرّ حزب الله إلى حرب أهليّة (لكن الحزب استطاع في غضون ساعات، أن يقضي على تلك الميليشيا التي كان سعود الفيصل يقول عنها بحسرة: كنّا نقدّم لهم الوجبات الساخنة ولم يصمدوا لساعات).
فشل رهان ٧ أيّار، وتبعته رهانات أخرى. عقوبات من كلّ نوع وتصنيفات عن الإرهاب، تصدر في واشنطن ثم يصل صداها إلى الجامعة العربيّة، بعدما تتلقّفه الدول الأوروبيّة. غزوات ضد غزة تفشل هي الأخرى، بعد تشكيل فرق مقاومة تعلّمتُ من (وتدرّبت على يد) المقاومة اللبنانيّة. مهمّة السفيرة الأميركيّة الحالية واضحة: الإشراف على الانهيار الكبير وإنقاذ حلفاء أميركا من الغضبة الشعبيّة، وتحويل النقمة ضد حزب الله فقط. وهي تعمل لتنسيق المؤامرة على مستوى المعيشة في لبنان وسوريا معاً، والانهيار المالي اللبناني أثّر على الوضع المالي والاقتصادي في سوريا، وهذا كان أيضاً مخطّطاً له. ويعاون السفيرة في مهمّتها هذه قطاعٌ كبير من الدولة والمجتمع والإعلام. يكفي أن ترى تغيّر وجهة الإعلام: محطة «الجديد» التي كانت تروّج يوميّاً لـ«مؤسسة الوليد بن طلال» باتت تروّج لنشاطات «مؤسّسة رينيه معوّض» التي رعى حفلاتها في واشنطن «المحافظين الجدد»، بمن فيهم بول وولفويتز نفسه وأقطاب اللوبي الصهيوني. وميشال معوّض، الذي لم يصل إلى النيابة إلا متسلّقاً على قائمة «التيّار» (الذي كان يهجوه يوميّاً)، بات بارزاً في السياسة بعدما خصّه مايك بومبيو بزيارة. وزيارة بومبيو كانت موعد إعلان رسمي للحرب على لبنان.
إنّ التدليل على المؤامرة الأميركيّة ضد لبنان، لا يعني البتّة التقليل من حجم المسؤوليّة الكارثيّة للطبقة السياسيّة الحاكمة: وهذه الطبقة تخرق الطوائف والمعسكرات السياسيّة. إنّ الدور البارز لنبيه برّي وإبراهيم كنعان (أي التيّار الوطني الحرّ)، في التمسّك بمصالح المصارف ورياض سلامة في هذه الحكومة، يعكس التماسك في صفّ الطبقة الحاكمة. في عام ١٩٧٥، حدث شرخ في صف الطبقة الحاكمة على خط طائفي (وإن انشقّت قيادات في بيروت الغربيّة والتحقت بالمشروع الانعزالي في بيروت الشرقيّة)، لكنّ الطبقة الحاكمة اليوم متراصّة لأن المغانم (في الدولة وخارجها) لم تعد محصورة بطائفة واحدة كما كانت. وطبقة الأثرياء هي الأكثر عرضةُ للتأثّر بالضغوطات الأميركيّة من غيرها، لأنّ أميركا تستطيع بقرار واحد تجميد حسابات وتبديد ثروات بين ليلة وأخرى. هل هناك شكّ اليوم أن (بعض) ٨ آذار تعاون مع ١٤ آذار لتهريب المجرم الفاخوري، وأنّ (كلّ) ٨ آذار غطّى وتستّر في حكومة حسان دياب على ذلك؟ بدأت نغمة التهديد الأميركي بعقوبات تطال حركة «أمل» و«التيّار»، تصدح منذ العام الماضي، ومن خلال إعلام أبواق أميركا والنظام السعودي في لبنان. وقد نجحت التهديدات: جبران باسيل الذي كان مُقاطَعاً من قبل الإدارة الأميركيّة، استقبل الرجل الثاني في وزارة الخارجيّة الأميركيّة، وكان موضوع المقابلة واحداً: المجرم الفاخوري. وقائد الجيش اليوم هو على يمين ١٤ آذار. قبل عام، أو أقل، اصطحب سفير بريطانيا وسفيرة أميركا قائد الجيش وأمراه بنشر مراكز مراقبة على طول الحدود الشرقيّة مع سوريا (بحجّة رصد أكياس البطاطا المهرّبة) وذلك لمحاصرة المقاومة. أي أنّ قائد الجيش الذي يتنصّل من حماية لبنان من عدوان إسرائيل (والذي يكتفي ببيانات دوريّة، بالتأكيد أنه بحث موضوع الخروقات مع قوات الـ«يونيفيل») يريد أن ينفّذ المشيئة الأميركيّة ــ الإسرائيليّة بمحاصرة المقاومة، من خلال هذا الرصد الدقيق فقط للحدود الشرقيّة مع سوريا. ماذا عن الحدود الجنوبيّة؟ هل يجرؤ على إنشاء مركز مراقبة واحد هناك؟ هل تسمح له أميركا بإنفاق قرشٍ من مساعدات الفتنة والصهيونيّة (التي تمنحها للجيش لا لتقويته، وإنما لضمان ضعفه ومنع تسليحه الجد من أي طرف آخر) لإنشاء مركز مراقبة ضد جيش الاحتلال؟
لنتّفق: إنّ الطبقة الحاكمة (التي يرعى نبيه برّي مصالحها اليوم بالنيابة عن ٨ و١٤ آذار) هي المسؤولة عن الفساد والسرقة وعن الانهيار المالي الحالي. الطبقة الحاكمة هي نتاج الحريريّة. وخلاف ٨ و١٤ آذار لا يعنيها البتّة. وفي الملمّات، ينضمّ معظم قوى ٨ إلى ١٤ آذار، كما يظهر اليوم في هذا التآزر بين برّي وفرنجيّة والحريري وعون وجنبلاط وجعجع. ولنتّفق أنّ الانهيار كان يمكن أن يقع قبل اليوم، إذ إنّ أزمات مالية واقتصاديّة (وهي من صلب النظام الرأسمالي) كانت سمة دائمة لهذا النظام، وكانت دول الغرب والخليج تأتي في المفاصل (من باريس ١ أو باريس ٢ أو غيرهما) كي تنقذ النظام وتمدّه بالمعونة اللازمة، حتى الأزمة اللاحقة (مثلما أمدّت ألمانيا، قبل أيّام، السودان بمليار ونصف من المساعدات بعد اللقاء بين نتنياهو وحاكم السودان). لكنّ أمراً ما تغيّر في عام ٢٠١٨، عندما شنّ محمد بن سلمان (بالاتفاق مع العدوّ الإسرائيلي وبرضى أميركي) «عاصفة حزم» على لبنان، واختطف سعد الحريري وأمر بربطه بكرسي وضربه وصفعه وركله وإهانته، قبل أن يُجبرَ على قراءة بيان استقالة فتنوي. كلّ الصحافة الغربيّة ربطت بدء هجرة المال من لبنان بتلك المرحلة (عادت دول الغرب واعترضت على طريقة محمد بن سلمان في التعامل مع الحريري مع موافقته على أسبابه الموجبة. ولو أنّ جمهور الحريري وافق على مبايعة بهاء الحريري، لكانت الإدارة الأميركيّة تماشت مع الاختيار الجديد.) الجديد أنّ الحكومة الأميركيّة بدأت (مع دول الخليج) بتشديد الحصار المالي والاقتصادي على لبنان وسوريا. هي ترعى الطبقة الفاسدة في لبنان وتحميها من المحاسبة (كان شينكر وفيلتمان صريحَيْن في الأشهر الأخيرة، بإصرار الحكومة الأميركية على حماية فاسديها في لبنان ومنع محاسبتهم).
ليس انهيار لبنان صدفةً في الوقت ذاته الذي تعاني فيه شعوب فنزويلا واليمن وسوريا وإيران من الحصار الأميركي. هذه سياسة مرسومة، ولا يغفل عن رؤيتها إلا الذي وقع ضحيّة سنوات من التضليل الأميركي في الصحافة العربيّة، والذي سخّف نظريّة المؤامرة وجعل الإيمان بها صرفاً من صروف الغباء أو السذاجة. ليس هناك مؤامرة أوضح من المؤامرة الجارية، وحماسة السفيرة الأميركيّة الجديدة جعلتها أكثر وضوحاً. وواضح أنّ هناك إنفاقاً أميركياً دعائياً سخياً في وسائل الإعلام اللبنانية، وهناك اعتماد (أميركي وأوروبي) على مواقع إنترنتيّة، وعلى مواقع التواصل (وبعضها ــ يا للطرافة ــ ينطق باسم الثاو ثاو ثورة، وموقع «ميغافون» أفرد تقريراً طويلاً للترويج المفضوح لعقوبات «قيصر»)، لضخّ البروباغندا الأميركيّة. وتستفيد هذه البروباغندا من غياب سياسة إعلاميّة واضحة للحزب. ويبدو أنّ عقداً قد رسا على محطة «إل.بي.سي»، إذ باتت البوق شبه الرسمي المتحدث باسم المؤامرة الأميركيّة. ويظهر مسؤولٌ أميركيٌ، مثل ديفيد شينكر، مع الكتائبي (لم ننسَ) ألبرت كوستانيان، ويلقى من المساءلة ما كان فرانك سيناترا يلقاه من لاري كنغ الشديد الإعجاب به، والذي كانت أسئلته لسناترا من نوع: فرانك، لماذا نحبّك؟ وكوستانيان يكاد في أسئلته أن يسأل شينكر (المُنتَدب في وزارة الخارجيّة من اللوبي الصهيوني وذراعه الفكريّة): ديفيد، لماذا نحن نحب البروباغندا الأميركيّة؟
استعرت الهجمة الأميركية بعد خطاب نصر الله الأخير إذ أنّ السفارة الأميركيّة قرّرت أنّه كان محكماً في وصفه لطبيعة الأزمة، وفي عرض خيار التعامل الاقتصادي مع الشرق
الهجمة الأميركية استعرت بعد خطاب نصر الله الأخير، إذ أنّ السفارة الأميركيّة قرّرت أنّه كان محكماً في وصفه لطبيعة الأزمة، وفي عرض خيار التعامل الاقتصادي مع الشرق (والشرق ليس فقط إيران وسوريا والعراق). خرجت السفيرة الأميركيّة عن طورها، إذ هي وحكومتها قرّرتا أنّ خطاب نصر الله يمكن أن يُقنع المزيد من اللبنانيّين بصوابية الخيار الشرقي، وبخبث الغزوة الأميركيّة، فكان هذا الهجوم الدعائي المحموم والذي تعاملت معه حكومة حسان دياب بالخنوع والذلّ والانصياع الذي تعاملت فيه مع كلّ الإهانات الأميركيّة التي رمتها السفارة الأميركيّة بوجه لبنان: من بيان السفارة الأميركية وتدخّلها الصفيق في القضاء اللبناني، بعد حادثة قبر شمون (كان ذلك في زمن الحكومة السابقة) إلى تهريب المجرم الفاخوري وبمشاركة (شبه) أكيدة من فريق في السلطة (خصوصاً من قيادة الجيش والراعي للسفير اللبناني في واشنطن والراعي لرئيس المحكمة العسكريّة، إلى كلّ عضو في الحكومة صمتَ ولم يعترض)، ثم الغزوة الأخيرة للسفيرة الأميركية التي خرقت فيها محرّمات بروتوكوليّة. لو أنّ السفير اللبناني في واشنطن ظهر على شاشة أميركيّة، ووصف الحزب الجمهوري بالإرهابي، وحمّله المسؤوليّة عن الأزمة الاقتصاديّة، لكانت وزارة الخارجيّة الأميركيّة قد أعلنته على الفور شخصاً غير مرغوب فيه، ولرحّلته في سفينة مواشي نحو لبنان. أمّا في لبنان، فقد تخاذل معظم فريق ٨ آذار عن الاعتراض (حتى جميل السيّد كان مُهادناً في كلامه) ووزير الخارجيّة اللبناني كاد أن ينحني معتذراً للسفيرة. وسليم جريصاتي اتصل (كمستشار رفيع لرئيس الجمهوريّة) بالسفيرة الأميركيّة وعبّر لها عن اعتذار رسمي عن «اللغط» الذي تبع قرار القاضي الشجاع، محمد المازح، كأنّ اللغط لم يكن من صنعها هي. ثمّ، لماذا تستحق سفيرة أميركا اعتذاراً عن لغط؟ اللغط لم يكن إلّا حقّ الشعب اللبناني في التعبير عن اعتراضه على وقاحتها. كان الحري بجريصاتي أن يعتذر من الشعب اللبناني، عن اللغط الذي ألحقته هي في لبنان. كلّ حلفاء حزب الله في ٨ آذار، بدوا في الهمروجة الأخيرة خائفين مذعورين أو مطيعين متملّقين ساجدين للسفيرة الأميركيّة، ولم يشذّ عن ذلك إلا الحزب السوري القومي الاجتماعي وحركة الشعب. كذلك، كان ردّ فعل الحركات اليساريّة في الحركة الاحتجاجيّة باهتاً، ربما باستثناء بيان لـ«الحركة الشبابية للتغيير».
هناك مؤامرة أميركيّة ــ إسرائيليّة ــ سعوديّة ضدّ الشعبيْن اللبناني والسوري. وجوقة التهويل بخطر تهريب البطاطا والطحين إلى سوريا، تشترك فيها عن سابق تصوّر وتصميم. الفصل عن فنزويلا في كتاب جون بولتون الجديد، يُفصح عن الخط البياني للانهيار في لبنان: هكذا ضربوا العملة الوطنيّة في فنزويلا، ومنعوا المؤسسات المالية الدولية من المساعدة بحجّة انتشار الفساد، ثم استعملوا المصارف ضدّ النظام وموّلوا حركات انشقاقية فشل معظمها. ثم هلّل بولتون لانهيار قطاعات الطاقة والاتصالات. هذا ما يريدونه في لبنان، لكنّ المؤامرة في لبنان متشعّبة: بعض حلفاء حزب الله مشارك فيها، فيما حزب الله يحميهم باسم تحالفاته الطائفيّة التي جعلت من الحزب ــ شاء أم لم يُرد ــ شريكاً فعليّاً في السلطة الفاسدة، لا بل اليد الضاربة في مفاصل الاحتجاجات. المؤامرة الأميركيّة في لبنان، استحوذت على معظم الطبقة الحاكمة والمصارف ومعظم الإعلام ومنظمات الـ«إن.جي.أو» والمنظمات الدوليّة (مديرة «برنامج الغذاء العالمي» تختلق الذرائع لمنع القوت عن الشعب السوري في مناطق تخضع لسيطرة النظام، وجريدة «الشرق الأوسط» الصهيونيّة تهوّل بخطر «المساعدات» التركيّة لفقراء شمال لبنان. أي أنّ السعوديّة (وأميركا) لا تمدّان يد المساعدة للبنان، ويريدان منع أي أحد من المساعدة. هذه المؤامرة مستمرّة، وهي تستفيد من حالة الانكفاء والتراجع التي يعيشها محور الممانعة، خصوصاً في جانبه الإيراني. والشبق الأميركي الإمبريالي يزداد شراسة ووحشيّة، كلّما شعر أنّ الردّ ضده معدوم. أميركا تعدّ لانقلاب في لبنان: لكنّه انقلاب يحفظ السلطة ويقصي منها فقط حزب الله ــ المتحالف مع…السلطة.