سياسة
المعرفة هي المنهج
سؤال في كشف الماهية، ماهية النقد حتى يكون باستطاعتنا أن نقول عن قولٍ ما إنه قول في النقد. والحق إنّ كشفنا عن ماهية النقد ليس إلا الكشف عن ممارسة النقد وإعطاء هذه الممارسة معنىً كلياً.
النقد في أساسه هو إظهار أخطاء الخصم أو صوابه، ثم صار النقد منهجاً، فمهمته إذن هو فهم الأثر الأدبي، الفلسفي، الفني.. إلخ، ولكن لكي يقوم النقد بهذه المهمة فيجب أن يكون معرفة في مواجهة معرفة أخرى، أو وعياً في مواجهة وعي آخر، ونحن أمام عناصر ثلاثة الناقد، المعرفة، النص.
الناقد -ذات تنطوي على نوعين من المعرفة: معرفة ذاتية مسبقة ومعرفة بالنص- الموضوع والنتيجة نص نقدي. فالنقد عندما يحوّل النص إلى موضوع، يعني أنه شكّل علاقة بين الذات والموضوع، ولكن الذات ليست صفحة بيضاء تدخل نصها خلواً من المعرفة المسبقة. فالنقد معرفة تواجه موضوعاً-نصاً، والمعرفة هي المنهج لأنّ كل منهج معرفة ولهذا عندما نتحدث عن مناهج النقد، فإننا نتحدث عن معرفة تكونت لتغدو أداة للنقد، وهذا يعني أن النقد منهج نقدي، معرفة تحولت إلى أداة فض وفهم، إلى أداة تفكير.
والمنهج قضية فلسفية و إبستيمولوجية، لأنه قضية معرفية بامتياز. وتأسيساً على ذلك نقول إن هناك أساساً فلسفياً لمناهج النقد الأدبي.
إذا انطلقنا من أن النقد غايته الفهم، وإذا انطلقنا من أن الفهم غير ممكن دون منهج معرفة، وإذا انطلقنا من أن المنهج معرفة تحوّلت إلى منهج، فإننا نقبض على العلاقة الصميمة بين مناهج النقد الأدبي والفلسفة.
الموضوع الأساسي للنقد الأدبي هو فهم النص-الأثر. والسؤال الأول الذي يخف النقد الأدبي للإجابة عنه هو: ما النص؟
للإجابة على هذا السؤال كان على النقد الأدبي أن يستعير من الفلسفة أجوبتها عن: العلاقة بين الذات والموضوع في عملية المعرفة، اللغة وماهيتها، علاقة الفكر بالواقع، علاقة الكاتب بشروط الاجتماعية الطبقية، اللاوعي وظهوره في النص، الأنا الحر وامتلاك العالم فنياً، علاقة الوجود بالماهية، الثورة ضد المركز، الظاهر والباطن.
كان على النقد الأدبي -عبر تاريخه- أن يصل إلى مرحلة يكون فيها مستقلاً عن الفلسفة، لكن هيهات، فكيف له أن يفهم عملية الكتابة الأدبية والكتابة نفسها لم تكن لديه نظرة إلى العالم، ورؤية خاصة لعلاقة الذات بالموضوع.
فرضيتي لا تقوم على سرد مناهج النقد الأدبي لاكتشاف أساسها الفلسفي وهو أمر يسير ولأبرز حضور الوعي الفلسفي في النقد.
الناقد -ذات تنطوي على نوعين من المعرفة: معرفة ذاتية مسبقة ومعرفة بالنص- الموضوع والنتيجة نص نقدي. فالنقد عندما يحول النص إلى موضوع، يعني أنه شكل علاقة بين الذات والموضوع
دعوني أبدأ من الذات المبدعة، فما الذات المبدعة للنص الأدبي؟ هذا السؤال ليس سؤالاً أدبياً بالأصل، إنه سؤال فلسفي سيكولوجي-اجتماعي-تاريخي.
لأطرح الأسئلة التالية: هل تعبّر الذات عن نفسها بحيث يكون النص الأدبي هو السيرة الذاتية للمبدع وقد أخذت شكل النص؟ هل تعبّر الذات عن لاوعيها الذي يحتاج إلى قراءة اللاوعي في النص من هذا الناقد أو ذاك؟ هل الذات تعكس موضوعات العالم وهي محملة بفكرة مسبقة عن العالم؟ هل الذات هي ثمرة الشروط المعيشية، وبالتالي هي مكوّنة في حقل ثقافي محدد لا يمكن فهم أثرها إلا بعد ذلك بوصفها ثمرة هذا الحقل؟
هذه الأسئلة يجيب عليها النقد الأدبي إجابات مختلفة انطلاقاً من مباحث أخرى أهمها الفلسفة.
لمّا كان المبدع لا يُعرف إلا من أثره ولمّا كان الأثر هنا نصاً ولمّا كان الأثر يحمل قيمة جمالية وأخلاقية وفكرية فإن قيماً كهذه القيم التي يحملها النص موضوع نظرٍ فلسفي بالأصل، ولمّا كان سؤال مناهج النقد الأدبي كيف تأتّى للنص أن يحمل هذه القيم فإن الفلسفة حاضرة في مناهج النقد الأدبي من حيث أنها المبحث الذي يستمد النقد الأدبي منه عدّته.
دعوني انطلق من الأطروحة التالية: الأدب امتلاك للعالم، وبكلمة أدق امتلاك جمالي للعالم حتى ولو كان هذا الامتلاك هو تعبير عن سيرة ذاتية فإن السيرة الذاتية هنا تحولت إلى عالم يسعى لامتلاكه فنياً.
المشكلة الفلسفية هي التالية: كيف يتم هذا الامتلاك للعالم. المشكلة المتعلقة بالنقد الأدبي كيف يتم امتلاك العالم. فنياً المشكلة الفلسفية: ما هي طبيعة العلاقة بين الذات والعالم. المشكلة في النقد الأدبي: ما هي طبيعة العلاقة بين الذات المبدعة والعالم.
النتيجة: إن علاقة مناهج النقد الأدبي بالفلسفة هي علاقة الخاص بالعام.
لنفض هذه العلاقة في إطار النقد الموضوعاتي حين أعلن ديكارت “أنا أفكر إذن أن أكون” فإنه قد جعل من الأنا جوهراً مفكراً أولاً، والحق أن النقد الموضوعاتي قد تأسس على هذا اليقين: الأنا يفكر، الأنا مفكر.
إن الأنا المبدع هو أنا واعٍ قبل كل شيء، لكنّه يظهر وبصورة متفرّدة عبر الوعي.
إن الأنا يُفهم هنا في علاقة بالعمل الأدبي بحيث نرصد عبر العمل الأدبي تغيّرات الأنا نفسه لكن الوعي هو وعي بالعالم، إنّ كل وعي هو وعي بشيء، وعي العالم يعني إقامة علاقات معه، ولهذا فالنقد الموضوعاتي هو الكشف عن هذه العلاقات بين الأنا والعالم.
لقد تعمقت هذه النظرة إلى العمل الأدبي بوصفه علاقة، انطلاقاً من تأثير هوسرل، إن طبيعة إدراكي للعالم تحدد علاقتي بالعالم، ولقد تحولت أطروحة ديكارت أنا أفكر إذن أن أكون إلى منبع السؤال: من أكون ومتى أكون وأين أنا. إن طريقة إدراكي الحسي تحدد طريقة وجودي في العالم. بل قل إن النص الأدبي صار طريقة وجودي في العالم. لكن علاقة الأنا المبدع بالعالم متوسطة بالخيال، الخيال بوصفه وعياً ينظم العالم الخاص للمبدع ويعطي للعالم صورة جديدة. وهنا تبرز أهمية باشلار.
ولمّا كان العمل الأدبي وجودا في العالم فإنه ينطوي على تجربة كلية، تجربة الوجود.
تخطيط: ساي سرحان
وكما أمدت الفلسفة منهج النقد الموضوعاتي بأدواته المعرفية-النقدية كذلك لا يمكن عزل النقد الاجتماعي عن الأساس الفلسفي له. فمن المعروف أن النظر إلى النص الأدبي بوصفه تعبيراً عن المجتمع ومشروطاً بالعلاقات الاجتماعية السائدة والتاريخ ليس وقفاً على الماركسية، بل يعود إلى القرن التاسع عشر، فلقد نظر إلى المبدع بوصفه أنا اجتماعياً يعكس عالم المعيش.
ولكن مع الماركسية صار النقد الأدبي مرتبطاً ارتباطاً شديداً بأطروحة ماركس الأساسية في علاقة الفكر بالواقع، من حيث ارتباط البنية الفوقية بالبنية الاجتماعية، أي أولوية الواقع على الفكر، فيكون الأول من هذه الزاوية انعكاساً للواقع الاجتماعي الذي هو جملة علاقات طبقية واقتصادية.
لقد قُرئ الأدب كما الأيديولوجيا انطلاقاً من المادية التاريخية، حيث قيمة الأدب الجمالية والأخلاقية والمعرفية صارت مرتبطة بالعصر الذي أنتجها أولاً، وبالطبقة التي يعبِّر عنها، إن النص وصاحبه ليسا أكثر من تعبيرين عمّا سبق.
من هنا ندرك معاني الأدب البرجوازي والأدب البرولتياري، بل أدب المرحلة الإقطاعية والمرحلة الرأسمالية والمرحلة الاشتراكية، فلم يعد الأدب موجوداً بمعزل عن السياسة الظاهرة أو الباطنة في النص، عن صراع الطبقات، وانطلاقاً من تصور كهذا نشأت الواقعية الاشتراكية ورمزها البطل الإيجابي الذي يتجاوز الراهن من أجل المستقبل.
وهكذا صار النص في تعبيره الجمالي الروحي والأخلاقي تعبيراً عن الاجتماعي السياسي، أو بلغة إدوارد سعيد تعبيراً عن الدنيا: من حيث هي الوقائع الوجودية للحياة البشرية والسياسية، عن حياة المجتمع وأحداثه، فالمبدع والنص والناقد هم أبناء الدنيا.
غير أن هذا النمط من النقد قد امتلأ بكل أسباب الانحياز الأيديولوجي الذي يفسد النص وصاحبه، ويُضيّق من ثراء النص وفضائه، بل ويحدّ من انفتاح النص على التأويل المتعدد.
ولهذا عوضت البنيوية، وهي بالأساس منهج في التفكير لفهم اللغة والجماعات والثقافة، فقر المنهج الماركسي بحصر اهتماهها بالنص ذاته، ببنية النص ذاته. فيما اختار النقد من منهج التحليل النفسي عدة مفهومية أخرى. و هذا ما يحتاج إلى وقفة أخرى.
وفي كل أحوال النقد، من نقد الأفكار إلى نقد الأشعار، من نقد الرواية إلى نقد الأثر التشكيلي، يجب أن يتحرر النقد من الموقف المسبق من الكاتب، ومن الموقف الذاتي الأيديولوجي وغير الأيديولوجي و من نزعة صراع الديكة. فالنقد هنا ليس حقل صراع بل حقل معرفة ليس إلاّ.